عن عمر يناهز 91 سنة، وبعد مسيرة حافلة في خدمة التاريخ والثقافة المغربية، يغادر عبد الحق المريني دار البقاء إلى جوار ربه، بعدما كان من أبرز الشخصيات الأدبية والفكرية بالمغرب وختم حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، كما نسخ الستين حزبا كاملة بخط يده.
مؤرخ المملكة بصوت هادئ
ظل عبد الحق المريني حاضرا في مفاصل الدولة لعقود، دون أن تسبقه ضوضاء السياسة أو نزق الظهور الإعلامي.
كان عنوانا لدقة البروتوكول، ومزج بين المؤرخ ورجل الدولة، بما جعله قريبا من دائرة القرار الملكي.
بدأ عبد الحق المريني مسيرته المهنية بتولي مهمة “محافظ” لضريح محمد الخامس في أواسط ستينيات القرن الماضي. لم تكن تلك الوظيفة الإدارية مجرد بداية متواضعة، بل كانت بوابة الدخول إلى عالم الدولة من أحد أكثر مداخلها رمزية وهيبة.
في الضريح الملكي، حيث تُصان ذاكرة الملوك وتُدار الطقوس بعناية فائقة، تعلّم المريني أبجديات الدولة العتيقة، وتشرب تقاليدها الصارمة، قبل أن يبدأ صعوده البطيء والمطّرد داخل هياكل السلطة.
على مدى سنوات، تنقّل بين مواقع متعددة داخل دائرة التشريفات الملكية، متسلّحا بلباقة اللغة، وهدوء الطبع، ومعرفة دقيقة بأسرار المخزن، إلى أن عُيّن لاحقا على رأس مديرية التشريفات والأوسمة في القصر الملكي خلال عهد الملك محمد السادس. وهي وظيفة بالغة الحساسية، لا يتولاها سوى من جمع بين الثقة المطلقة، وفهم رمزية الحضور، ومعاني الإشارات في النظام الملكي المغربي.
لم يكن الراحل مجرد رجل بروتوكول، بل كان يحمل في دواخله ولعا قديما بالتاريخ، ولعا سيقوده إلى لعب دور أكبر من مجرد ترتيب مراسم أو تنسيق استقبال. لقد تحوّل إلى “مؤرخ المملكة”، وهو منصب شرفي ومؤسساتي في آن معا، يُعهد إليه بحفظ سردية الدولة وصياغة روايتها الرسمية، وربما ترميم ذاكرتها في لحظات التأويل.
ومن موقعه هذا، أشرف المريني على إنتاج نصوص مرجعية تهم تاريخ المغرب المعاصر، وساهم في تعزيز صورة الدولة في بعدها الرمزي، واضطلع بمهمة دقيقة: التوفيق بين الرواية الرسمية للتاريخ، والحس الأكاديمي الذي لا يُحب الاستسهال.
المثقف الصامت
إلى جانب مهمته كمؤرخ للمملكة، أشرف عبد الحق المريني أيضا على المطبعة الملكية، حيث تُصاغ وثائق الدولة السيادية وتُنقح خطابات العرش وتُنشر الظهائر. إنّها ورشة الصياغة الكبرى، حيث الكلمة تُصبح سياسة، والحرف يُصبح مرسومًا. وهناك لعب المريني دور “الحارس الصامت”، يراجع، يُدقّق، ويحرص على أن تمرّ كل كلمة بميزان المعنى والدلالة.
في مشهد يُشبه اكتمال الدائرة، عاد عبد الحق المريني أواخر سنة 2010 إلى النقطة التي بدأ منها، حين أُعيد تعيينه محافظا على ضريح محمد الخامس، المنصب الأول الذي شغله في حياته.
لكنها لم تكن عودة إلى الوراء، بل تموضع جديد لرجل صار يحمل اليوم مناصب رمزية كبرى: مؤرخ المملكة، مشرف على المطبعة الملكية، ورجل دولة يملك مفتاح الذاكرة الرسمية.
بعيدا عن الأضواء، ألّف المريني كتبا مهمة حول التاريخ المغربي، والرموز الملكية، وتقاليد الدولة. أسلوبه في الكتابة لا يخرج عن هندسته الشخصية: رصين، متوازن، غير صدامي. هو المثقف الذي يكتب بعين الدولة، دون أن يتنازل عن حس الباحث، ويؤرّخ برؤية المؤتمن، لا المؤدلج.
لا يُكثر من التصريحات، ولا يظهر في المنصات، لكنه حاضر في كل المحطات. رجل يختار الصمت المعبّر بدل الجلبة الفارغة، ويؤمن أن القوة الحقيقية لا تحتاج إلى إعلان صاخب.
عبد الحق المريني ليس مجرد موظف سام في الدولة، بل هو تجسيد حيّ لفلسفة الجمع بين التقاليد والتاريخ، بين الوفاء والاستمرارية، وبين الحضور الدائم والصوت الخافت. في شخصه، تتجلى فكرة الدولة كما يريدها النظام المغربي أن تُفهم: رصينة، متواصلة، ومُصانة بسرد محكم، لا مكان فيه للارتجال.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...