واشنطن وبكين.. علاقات بين المد والجزر

عادت العلاقات المتقلبة بين الولايات المتحدة والصين إلى الواجهة مرة أخرى خلال سنة 2023 بسبب الخلافات العميقة حول مجموعة واسعة من القضايا. ومع ذلك، فإن أكبر اقتصادين في العالم يدركان ضرورة إرساء أرضية مشتركة وتجنب تشنج العلاقات التي تغذيها المنافسة الشرسة في ظل بيئة جيوسياسية تتسم بالصراع والانقسام.

إذ تصاعدت التوترات بين واشنطن وبكين في السنوات الأخيرة، بدءا من التعريفات الجمركية التي تم فرضها في ظل إدارة ترامب لتمتد إلى القيود التكنولوجية واسعة النطاق التي عرفتها إدارة بايدن.

في فترة توليها رئاسة مجلس النواب الأمريكي، قامت نانسي بيلوسي في غشت 2022 بزيارة مثيرة للجدل إلى تايوان، مما جعلها أعلى مسؤول أمريكي يزور الجزيرة في 25 عاما.

هذه الخطوة دفعت بكين إلى تعليق مفاوضاتها بشأن المناخ مع الولايات المتحدة، والتي تعتبر واحدة من مجالات التعاون القليلة بين البلدين.

وفي هذا السياق، أكدت إدارة بايدن أن الولايات المتحدة في منافسة مع الصين، لكنها تسعى، في الوقت ذاته، إلى ضمان عدم “دخول القوتين في صراع”.

وفي أوائل شهر فبراير الماضي، أدى الجدل الذي تولد عقب تحليق منطاد صيني فوق المجال الجوي للولايات المتحدة، يزعم أنه استخدم لغرض التجسس، إلى الكشف عن مدى هشاشة العلاقات القائمة بين البلدين.

ودفع هذا الحادث البلدين إلى تعليق المفاوضات الثنائية رفيعة المستوى، كما تم تأجيل زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الصين.

كما منعت إدارة بايدن الشركات الأمريكية من بيع التكنولوجيات المتطورة، وخاصة أشباه الموصلات، للشركات الصينية، وسعت إلى كبح الاستثمار الأمريكي في التكنولوجيا الصينية على العموم.

وفي أبريل، أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، ومقره واشنطن، تقريرا يصف العلاقات الأمريكية الصينية بأنها “عالقة في حلقة مفرغة ومتوترة”.

وأبرز التقرير أن “الأمر يؤدي إلى طريق مسدود، بل في واقع الأمر، إلى دوامة من التوترات التي تتجاوز المعضلة الأمنية النموذجية، حيث يتخذ كل جانب تدابير للدفاع عن نفسه، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى انعدام الأمن لدى الطرف الآخر فيلجأ، بدوره، إلى الرد بالطريقة ذاتها”.

++تحسن في العلاقات الثنائية يلوح في الأفق

وعلى الرغم من هذه التطورات، فقد تحسنت العلاقات بين البلدين خلال الصيف الماضي، وذلك عقب الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى بكين في يونيو، والتي تلتها زيارات أخرى قام بها العديد من كبار المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك وزيرة الخزانة جانيت يلين، أو حتى المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي لشؤون المناخ، جون كيري.

وبذلك أصبح بلينكن أول وزير خارجية يزور بكين في خمس سنوات، وأعلى مسؤول أمريكي يقوم بهذه الخطوة منذ تولي الرئيس جو بايدن منصبه في عام 2021.

وبعد أيام من المحادثات مع كبار المسؤولين الصينيين، أكد بلينكن أنه تم إحراز “تقدم” ملحوظ لإعادة العلاقات إلى مسارها الصحيح.

وفي أوائل أكتوبر، عقد زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، تشاك شومر، وخمسة أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ الأمريكي يمثلون الحزبين الجمهوري والديمقراطي اجتماعا مع الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وفي نهاية أكتوبر الماضي، قام وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، بزيارة إلى واشنطن، تميزت بعقد محادثات مع الرئيس، جو بايدن، وكبار المسؤولين في الدبلوماسية الأمريكية.

واعترف وانغ، حينها، بوجود “خلافات” و”تباينات في الرؤى” بين الصين والولايات المتحدة، لكنه شدد على أن البلدين “تربطهما مصالح مشتركة مهمة”.

ودعا الرئيس الأمريكي، خلال لقاءاته مع رئيس الدبلوماسية الصينية، إلى إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين واشنطن وبكين.

وشدد بايدن أيضا على أهمية تدبير المنافسة بين البلدين والحفاظ على قنوات الاتصال مفتوحة بين أكبر اقتصادين في العالم.

وكانت زيارة يي لواشنطن هي الأولى من نوعها التي يقوم بها وزير خارجية صيني منذ مارس 2021.

++قمة بين بايدن وجين بينغ لتخفيف التوترات

في منتصف نونبر الماضي، أجرى بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ محادثات بالقرب من سان فرانسيسكو، شكلت الاجتماع الأول من نوعه بين زعيمي أكبر اقتصادين في العالم منذ عام.

وفي ختام هذه المحادثات، أشار الرئيس الصيني إلى أنه اتفق مع نظيره الأمريكي على إقامة حوار حكومي دولي حول الذكاء الاصطناعي، والتعاون في مكافحة المخدرات، واستئناف الحوار العسكري رفيع المستوى على أساس الاحترام المتبادل، علاوة على برمجة المزيد من الرحلات الجوية المباشرة بين البلدين.

وشدد الزعيمان، اللذان التقيا على هامش قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ، على الضرورة الملحة لكلا البلدين للتصدي لأزمة المناخ.

وقال مسؤول أمريكي رفيع المستوى، عقب هذا اللقاء، إن المحادثات أسفرت عن اتفاقات في عدة مجالات رئيسية، بما في ذلك خفض إنتاج الفنتانيل واستئناف الاتصالات العسكرية.

وفي أوائل دجنبر، ومن خلال مكالمة هاتفية بين وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ونظيره الصيني، وانغ يي، اتفق البلدان على البناء على التقدم الذي تم إحرازه خلال اجتماع القمة بين الرئيسين جو بايدن وشي جين بينغ.

وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، ماثيو ميلر، إن “الجانبان أكدا على أهمية البناء على التقدم المحرز في القضايا الرئيسية خلال القمة بين الرئيس بايدن والرئيس جين بينغ الشهر الماضي بولاية كاليفورنيا”.

من جانبه، أعرب الرئيس الصيني، شي جين بينغ، مؤخرا، عن رغبة بلاده في تعزيز علاقات “مستقرة ودائمة” مع الولايات المتحدة.

وقال شي، في رسالة خلال حفل عشاء أقيم بمناسبة الذكرى الخمسين لمجلس الأعمال الصيني الأمريكي، إن الصين مستعدة لبذل جهود متضافرة مع الولايات المتحدة “لتعزيز التنمية الصحية والمستقرة والمستدامة للعلاقات الثنائية”.

وعلى الرغم من تصريحات كلا الطرفين الداعية إلى ضرورة تخفيف حدة التوترات وتعزيز التعاون في مختلف القطاعات، إلا أن المنافسة التكنولوجية والاقتصادية الشرسة بين بكين وواشنطن، فضلا عن القائمة الطويلة من النزاعات الثنائية حول العديد من القضايا الدولية، تهدد في أي وقت بتوجيه ضربة قاسية للعلاقات التي تربط بين واشنطن وبكين.