عبد العالي بن مبارك بطل يؤكد جل العلماء والمفكرين بأن صحة ونجاعة الإنسان تبدأ من أفكاره ونظرته العلمية والثقافية للأمور ومدى تفاؤله أو تشاؤمه بالمستقبل، لهذا وجب عدم الوقوع في فخ الطحن الذاتي وجلدها على تجارب وأفكار غير موفقة في حياتنا الماضية كيفما كان نوعها، والتي قد تقودنا للعزلة والتفاهة والشغف للوصول للمبتغى دون تبصر ونظرة ثاقبة واعية وهادفة للمصلحة الشخصية والعامة، وبالتالي يصبح الخروج منها صعب المنال.
لذا نجد أن بعض شباب اليوم وجيل المستقبل، منهم المفكرون والعلماء يضيعون أوقاتهم وأفكارهم في أشياء تافهة وغير هادفة وذلك نتيجة للزخم العولمي والمواقع الالكترونية والرغبة في الربح السريع مهما كانت طرقه، مما قد يؤدي لضياع الأفكار الجادة والهادفة بكل سهولة. ولعل ما استلهمني للكتابة والخوض في هذا الموضوع، هو قراءتي لقصة شهد أحدتها عهد الخليفة هارون رشيد، ربما تكون لنا عبرة لما تقدم، حيث يحكى أن رجلا عبقري زامنه تقدم للخليفة هارون الرشيد “فقال له : إني أستطيع أن أقوم بعمل يعجز عنه جميع الناس يا أمير المؤمنين، فقال له الخليفة : هات ما عندك حتى نرى ! فأخرج علبه مليئة بالإبر ، فغرس إحداها في الأرض، ثم أخذ يرميها بسائر الإبر، بحيث أن كل إبرة تشتبك بثقب الإبرة السابقة، ولما انتهى من رمي الإبر، وقف الرجل مزهوا بعمله وعبقريته، منتظرا الجائزة ومكافأة الأمير له على فعلته وعبقريته، فأمر أمير المؤمنين بضربه مائة جلده وإعطائه في نفس الوقت مكافأة مائة دينار على فعله، ولما سئل هارون الرشيد عن سبب هذا التصرف قال : أعطيته مائة دينار مكافأة على حذقه ومهارته وعبقريته ، وأمرت بضربه مائة جلده لأنه يضيع ذكاءه وعبقريته فيما لا يفيد ” .
إن ضياع الذكاء والعبقرية فيما لا يفيد الشخص ومجتمعه هي حصل حاصل نجده في مسيرة حياة كل شخص منا كيفما كان نوعه وهو نتيجة لتراكم وتواجد العديد من العراقيل والمشاكل والصدمات في حياتنا الشخصية، والتي تحول دون السير به الى الأمام، لكن هذا لا يعني الاستسلام والخضوع لمنطق اليأس والانكسار، لأن ذلك سيجعل مساحة التوتر والفشل والهزيمة مهيمنة على مسيرتنا الحياتية، حيث أن الإنسان في طبعه يضخم الأخطاء لدرجة استحالة التصحيح، ويعمل على تحقير ذاته وإذلالها ممارساً عليها أقصى حالات الجلد، سواء منه المادي أو المعنوي، هذا الأخير الذي يتجلى في اليأس من المستقبل وعدم جدوى الحياة، وغيرها من الهواجس السلبية التي يصاب بها، وقد يصل به الحد لدرجة الاستئناس والتمتع بالحديث عن هذا اليأس والانكسار، وبالتالي تضيع أفكاره الجيدة وعبقريته فيما لا يفيد.
وعندما يكون صراع الأفكار محتدماً، فمن الطبيعي أن تكون النخب الفكرية هي المغذي الرئيسي الذي من شأنه إدامة زخم الصراع والظروف المرحلية التي تفرض واقعها الذي ينعكس حتماً على المزاج الفكري العام، والذي قد يتعرض لهزات وانكسارات قد تحدث تشظيات وانقسامات في صفوف المفكرين، بحيث يعيشون في عزلة انهزامية تلقي بظلالها على الواقع المجتمعي وشرائحه الأخرى. وهذا ما قد يلد حالة من التعددية السلبية.
حقيقة إذا لم نفشل لا يمكن أن نحقق نجاحاً، وإذا لم نتعثر وليس لنا أن نواصل، وهذه قاعدة حياتية، لذلك بدلاً من ممارسة تحقير الذات وضياع الأفكار الجادة في أشياء تافهة وليس لها قيمة، وبدلاً من الهروب غير المجدي، لا بد من مواجهة صريحة تتضمن البحث عن أسباب هذه الهزائم والانكسارات والأفكار الفاشلة غير المفيدة، بشرط أن لا تكون المصارحة مصارحة لجلد الذات وإلا فإننا لم نفعل شيئاً.
فالحل إذن يكمن في نقد الذات لا بجلدها، وهذا النقد كفيل بقطع الطرق المؤدية إلى النفس الانهزامية، وسيمدنا بالتشبث بالأمل والمواصلة في طريق تستمد قوتها من جذر النقد الذاتي الفاعل والبناء، لان أبرز أسباب اندثار الحضارات العظيمة تتمثل في توقفها عن التفكير وعدم تقبل حركات التجديد التي تنقد الفكر والعقل بمنهجية علمية، حيث كان بإمكان الأندلس أن تجعل أوروبا مسلمة فتستفيد أوروبا من الإسلام ويستفيد الإسلام من أوروبا إلا أن أحفاد الأندلس ابوا ذلك من خلال ممارستهم التي كانت خلاف نهضة أجدادهم وأمر باريهم حيث ضيعوا أفكارهم فيما لا يفيد.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...