نوفل الناصري
سياق دولي مُتّسم بعدم اليقين
يعيش العالم حالة من عدم اليقين بتحديات اجتماعية واقتصادية متزايدة نتيجة الحروب التجارية المشتعلة بين أمريكا والصين وتداعيات الركود الاقتصادي الأمريكي المحتمل، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي تباطؤ النمو للعام 2019 في نحو 90 في المائة من العالم، مع إمكانية انخفاض الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو 0.8 في المائة بحلول عام 2020، أي ما يقارب 700 مليار دولار أمريكي.
وفي السياق ذاته، أعربت منظمة التجارة العالمية عن تخوفها وقامت بتخفيض توقعاتها لنمو التجارة العالمية بـ 2,7 في المائة في 2020 عوض 3 في المائة التي كانت متوقعة سابقا. إلى جانب ذلك، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، وارتفاع ديون الشركات الأوروبية، عاملان يمثلان تهديدات خطيرة إضافية للاقتصاد العالمي، ولا قدر الله إذا تأكد حدوث الركود الاقتصادي العالمي في السنة المقبلة، فإن ديون الشركات المعرضة لخطر التخلف عن السداد (حسب صندوق النقد الدولي) سترتفع إلى 19 تريليون دولار، أي ما يفوق 40 في المائة من إجمالي الديون في ثماني اقتصادات رئيسية هي ألمانيا والصين وإسبانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة. كما أن هناك توقعات بارتفاع أسعار البترول والغاز نتيجة فرض العقوبات الأمريكية على النفط الإيراني الذي يُمد السوق الدولية بأزيد من 2,7 مليون برميل يوميا.
كل هذه المعطيات توضح حجم الإكراهات الضخمة والسياق الصعب الذي سَتشتغل فيه الحكومة الجديدة، وستُمكن المواطن المغربي من تقدير المجهودات المالية التي ستخصصها الدولة المغربية للحفاظ على أمنها واستقرارها ولحماية القدرة الشرائية لمواطنيها ودعم الفئات الهشة والفقيرة، في خضم هذا المحيط الدولي المشتعل وفي ظل رمال إقليمية متحركة. كما ستساعد هذه التوقعات صناع القرار على حسن اختيار السياسات العمومية الملائمة لهذه المتغيرات المتسارعة، مع تحديد الرهانات المالية والتحديات الاجتماعية والإجراءات الضرورية التي ينبغي على الجميع (حكومة ومؤسسات وبرلمان) التركيز عليها والبدء بها، والتي في نظري يمكن إجمالها فيما يلي:
حماية القدرة الشرائية للمواطنين وإصلاح منظومة الدعم (المقاصة)
الرهان الأول مرتبط بحماية القدرة الشرائية للمواطنين ودعم الأسعار الداخلية، عن طريق توفير الموار المالية لأداء تحملات صندوق المقاصة، وقد برمجت الحكومة ما مقداره 12,64 مليار درهم لهذا الأمر، يُضاف إليه مبلغ مليار درهم من أجل تغطية المخاطر. وهذا إجراء حكومي سيساعد على الاستقرار الاجتماعي وعلى تفادي تداعيات ارتفاع الأسعار على المستوى الدولي؛ ومن أجل مأسسة هذا الإجراء النوعي، أعتقد أن على الحكومة التركيز على مواصلة الإصلاح التدريجي لنظام المقاصة والإسراع في تفعيل آليات استهداف الفئات في وضعية فقر وهشاشة، واعتماد مقاربات جديدة للدعم المباشرة للطبقة المتوسطة، وذلك عن طريق التعميم التدريجي للسجل الاجتماعي الموحد.
تنزيل التزامات اتفاق الحوار الاجتماعي
هناك رهان مالي آخر مرتبط بالتزامات الحكومة بتأدية الانعكاسات المالية لاتفاق الحوار الاجتماعي المتمثلة في الزيادة في الأجور بكلفة إجمالية تصل إلى أزيد من 14 مليار درهم، ضمنها 6 ملايير في سنة 2019، وسيتم تخصيص 6,079 لسنة 2020، وسيصل الانعكاس المالي الإجمالي السنوي لهذا التنزيل ما يقارب 14,25 مليار درهم ابتداء من سنة 2021، مما يُحتم على الحكومة ضرورة البحث سريعا عن موارد مالية إضافية واتخاذ تدابير ترشيدية من أجل الحفاظ على التوازنات المالية، من قبيل ترشيد النفقات المرتبطة بتسيير الإدارة وكل ما يتعلق بنفقات الماء والكهرباء والاتصالات، والنقل والتنقل داخل وخارج المملكة، وكراء وتهييئ المقرات الإدارية وتأثيثها، ونفقات الاستقبال والفندقة وتنظيم الحفلات والمؤتمرات والندوات، ومصاريف الدراسات، واقتناء وكراء السيارات. وسيساهم تنزيل مقتضيات الحوار الاجتماعي في تقليص القلق الاجتماعي وتحسين متوسط المستوى المعيشي للمواطن المغربي وتحفيز الاستهلاك الداخلي، حيث سيتم الرفع من الحد الأدنى للأجور إلى 3300 درهم في الشهر، والرفع من المتوسط الصافي للأجور إلى 8000 درهم في الشهر.
مواصلة دعم البرامج الاجتماعية
هناك تحديات أخرى ترتبط بتوفير الاعتمادات المالية الكفيلة بمواصلة دعم البرامج الاجتماعية التي تروم تقليص التفاوتات الاجتماعية والفوارق المجالية، كبرنامج “تيسير”، والرفع من المنح الجامعية واعتمادات المطاعم المدرسية والداخليات وتعزيز منظومة “راميد” ودعم النساء الأرامل والأشخاص في وضعية إعاقة، وتفعيل صندوق التكافل العائلي، وصندوق التعويض عن فقدان الشغل، وتعميم التغطية الصحية الأساسية للطلبة ولأصحاب المهن الحرة، بالإضافة لتسريع تفعيل البرنامج الملكي للحد من الفوارق المجالية والاجتماعية في العالم القروي (50 مليار درهم ككل، وسيتم تخصيص 4 مليارات درهم كاعتمادات التزام برسم سنة 2020)، علاوة على مواصلة توفير مساهمة الميزانية العامة الخاصة بإطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2019-2023 (التكلفة الإجمالية تقدر بـ 18 مليار درهم).
تفعيل الجهوية المتقدمة وميثاق اللاتمركز الإداري
هناك تحدٍّ متعلق بورش هيكلي يمثل العمق الاستراتيجي لهذه المرحلة المفصلية في تاريخ المغرب، وهو تسريع تنزيل الجهوية، الأولوية التي دعا إليها ملك البلاد في غالبية خطبه، باعتبارها رافدا أساسيا لمعالجة الفوارق المجالية، وتحقيق التوازن الاجتماعي المطلوب بين ثمار التنمية الوطنية، في ظل الاستفادة من خصوصية كل جهة. وقد خصصت الحكومة في السنة الماضية ما يقارب 8,5 مليارات درهم كموارد مالية مرصودة للجهات، وينبغي مواصلة هذه الدينامية بالرفع من تحويلات الميزانية العامة لتتمكن الجهات من القيام بأدوارها الدستورية، وقد التزم وزير المالية بتخصيص ما يقارب 9,6 مليارات درهم لهذا الورش.
في السياق ذاته، ينبغي تحقيق شرط آخر لضمان التنزيل العملي والسليم للجهوية، ألا وهو ميثاق اللاتمركز الإداري، وذلك بالإسراع بنقل الاختصاصات المركزية إلى الجهات، مما سيُحفز الاستثمار على المستوى الجهوي وسيساعد في الرفع من جودة الخدمات الإدارية والعمومية وتعزيز منظومة القرب من المواطنات والمواطنين والمقاولة.
تحفيز الاستثمار ومواصلة تنفيذ المشاريع الكبرى
من الإكراهات الكبيرة التي سترافق الحكومة في السنتين القادمتين، ضرورة رصدها لاعتمادات استثمارية مهمة بغية إعطاء دينامية جديدة للاستثمار وتفادي تداعيات الركود الاقتصادي العالمي المحتمل في السنة المقبلة، والبدء بإعطاء الأولوية لتوطيد المشاريع الكبرى قيد الإنجاز، من قبيل مشاريع بناء وتهيئة وتجهيز وإعادة تأهيل كل من البنيات الاستشفائية والمراكز الصحية، والمؤسسات التعليمة والمؤسسات الجامعية، وكذا مشاريع البنيات التحتية واللوجيستيكية من موانئ وطرق وسكك حديدية، وبرنامج بناء السدود الكبرى والصغرى، وتطوير البنى التحتية الرياضية، والتسريع بتنفيذ مشاريع برنامج الأولويات للتزويد بالماء الصالح للشرب والسقي.
دعم المقاولات وخصوصا الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا
ينبغي مواصلة تأهيل ودعم ومواكبة المقاولات، خصوصا المقاولات الصغرى والمتوسطة والصغيرة جدا، وذلك بالحرص على تقليص آجال الأداءات ومراقبتها وتفعيل البوابة الرقمية لمعالجة شكايات المتضررين، كما ينبغي تسريع الارجاعات ومواصلة تصفية دين الضريبة على القيمة المضافة المتراكم، إضافة إلى ضرورة تحسين الولوج للتمويل من خلال إبداع أساليب جديدة للتمويل وتبسيط آليات الضمان وزيادة الرفع من سقف التمويل، والتسريع باعتماد منتجات التمويل التشاركية كالمضاربة والمشاركة والسلم، واعتماد آلية متنوعة للضمان موجهة بشكل خاص للمقاولات الصغيرة جدا.
تنزيل توصيات المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات
من الأولويات التي يجب على السلطة التنفيذية التركيز عليها في هذه السنة، تنزيل توصيات المناظرة الوطنية الثالثة حول الجبايات التي حققت الإجماع الوطني عليها من طرف جميع المتدخلين والفاعلين، خصوصا حين تطرقها وبتفصيل للعدالة والإنصاف، وجعلت من نظامنا الجبائي الوطني دعامة أساسية لبناء نموذج تنموي فعال.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...