حقيقة لا مفر منها أن العالم المعاصر يصير في عجلة دائمة ومتسارعة، مما يجعل حياتنا تأخذ مسار وأماكن نجهل وجهتها وكذلك نلتقي بأشخاص لم نكن نتصوّر أننا سنلتقي بهم في يوم من الأيام، وهذا المصير المجهول يجعلنا نواجه مواقف لم نكن نتوقعها أو ربما ننتظرها، ولهذا يستوجب علينا مواكبتها قدر الإمكان وهذا من خلال عمل وقفة تأمل، تخول لنا التّفكير الإيجابي وتجعلنا نرى الأشياء الخفيّة ونشعر بأدق تفاصيلها، وإلا لا قدر الله سوف نبقى في مكاننا عاجزين على التأقلم فيما يدور حولنا، وبالتالي ستضيع علينا الكثير من الفرص غير المستغلة، والتي كان من الممكن أن تُغيّر حياتنا نحو ماهو أفضل.
وحقيقة ثانية أننا دائما ما نرى بان إصلاح الطريق الذي أفسدته الظروف والأحكام التي تعرضنا لها يكون صعب التغلب عليه شيئا ما، لكنه غير مستحيل إذا ما توفرت لدينا إرادة وعزيمة صادقة وطموح خلاق وتخلينا عن عاداتنا السلبيّة والسيئة التي تُعيق عمليّة تطور حياتنا وأنفسنا وتمكننا من التعلّم من سلبيات الماضي لكي نعيش حاضره المستقبلي بكل ايجابية وأريحية.
ولتطوير حياتنا المستقبلية نحو ما هو أفضل يستوجب علينا كخطوة اولى نقوم بها هي تطوير أنفسنا من كل السلبيات والأوهام والمفاهيم الخاطئة والرقي بذاتنا الشخصية وعدم الحكم على غيرنا بسبب مظاهره وسوء فهمه، وعدم حبنا ومساعدتنا للاخر وإشعاره بأهميّة نفسه، حتى يسعى لنقلها إلى حالٍ أفضل وخصوصا أننا نعيش داخل مجتمع وليس منفردين، وإلاّ سيبقى الفرد منا في مكانه وفي حالة شرود وتدهور، فذات الفرد هي أساسه الذي هو عليه اليوم وأرضه الخصبة التي يجب أن يزرع فيها كل تمرة مفيدة ، وما يُقدمه الفرد لذاته يبقى ويعود بالنفع عليه وعلى المجتمع لاحقاً كذلك، أمّا إذا قررنا بقائه وبقائنا على نمط وروتين حياة مُعينّة وسلبية، فسيُصيبه ويصيبنا الملل، والإحباط، واليأس، والتقاعس. وهذا ما لا يرغب فيه أي شخص ومجتمع، كما يجب علينا التحلّي بمهارة العطف على الآخر والإصغاء إليه وتفهم مشاعره وأفكاره، لا ربما هذا قد يعود علينا بالحب والوئام الذي نرغب العيش فيه ليس كفردين فقط بل كمجتمع متكامل، فاذا تحقق هذا المبتغى لا ربما خلال الأعوام القادمة سيتم الاحتفال بيوم يسمى حب المجتمع والأفراد وليس كالاحتفال الحالي الذي ينحصر عن على شخصين فقط وهو ما يعرف بالفالنتيان.
لهذا أحببت مشاركتكم مقالي هذا تحت عنوان «إياك أعني فاسمعي يا جارة» هذه المقولة القديمة، والتي كثيراً ما نستعملها للتعبير بصورة غير مباشرة، أو بطريق المجاز والتشبيه للتعبير عمّا يدور في أذهاننا، بحيث يفهمه السامع من دون مجابهته أو خدش مشاعره. كما يقال أحياناً ممن يخاطب شخصاً ويقصد بكلامه شخصاً آخر. وهو من الأمور الشائعة في المجتمعات التي اعتادت مراعاة قواعد الأدب واللياقة. وأصل هذه المقولة يعود إلى سهل بن مالك الفزاري، حيث كان هذا الأخير في طريقه لتلبية دعوة الملك النعمان ابن المنذر احد ملوك الحيرة في العراق قبل الإسلام، فقبل وصوله مرّ بحي من أحياء المدينة المجاورة لقصر النعمان، فتوجّه نحو سيدها بحكم علاقته المسبقة به فلم يجده، ولكنه صادف أخته، فرحبت به وأنزلته وأعدت له ما كان من طعام وشراب، وعندما خرجت من خبائها لاحظ ما كان لها من جمال مظهر وحسن قامة وطيب صنيع وأدب استقبال ” وهذا كان من شيم العرب”. حيث كانت عقيلة قومها وسيدة نسائهم، فأصابه ما أصابه من هواها كما يقال في ايامنا حب أول نظرة. ولم يعرف كيف يفتح لها قلبه ويكاشفها بحبه، فجلس في فناء الخباء وهي تسمع صوته، وجعل ينشد ويقول:
يا أخت خير البدو والحضارة كيف ترين في فتى فزارة؟ أصبح يهوى حرة معطارة إياك أعني واسمعي يا جارة
لكن للأسف أن كلماته فهمت بالغلط فردت رد لا يحمد حيث قالت :
إني أقول يا فتى فزارة لا أبتغي الزوج ولا الدعارة ولا فراق أهل هذي الجارة فارحل إلى أهلك باستخارة
فخجل الرجل وانصرف وبعد مغادرته استحت من تسرعها وحكمها السريع عليه خصوصا انه كان صادق في تعبيره وعند عودته مرة ثانية لنفس المدينة بعدما تم لقائه بالملك النعمان ، تطلعت إليه نفسها، فأرسلت إليه أن «أخطبني من أخي إن كانت لك حاجة بي». فخطبها وتزوج بها، وسار هذا المثل كرمز من رموز عدم الحكم المسبق على الناس قبل معرفة ما بداخلهم والأسباب الدافعة لكلامهم.
صراحة أن هناك أفراد قد تبتلي بالتسرع والحكم على الآخرين دون الاعتماد على حقائق واقعية، بل تكتفي فقط على المؤشرات والدلائل السطحية، بحيث قد تحكم على شخص من خلال ملامحه أو رأي أطراف أخرى فيه، على الرغم من عدم توفرها على كل المعطيات والدلائل الكفيلة بذلك، كالتعامل والاحتكاك معه، وهذا في حد ذاته يخالف الأعراف القضائية والقانونية (لأن أي حكم قضائي يستوجب سماع الأطراف ومبرراتهم)، فالأولى في الحكم أن يكون على السلوك والأعمال، وليس على المظهر أو الهيئة، لأنها كلها معطيات تجلو غبار المعادن، فتظهر السلوكيات والتصرفات التي تُدّعم تلك المعطيات للحكم على إنسان خلقه الله ، وصوره كما صورنا. فصحيح كذلك أن هناك في مظهرنا شيئا ما لا نستطيع التحكم به أو تطويعه حسب رغبة الآخرون، لأنها تخضع لخلق الرحمن، كالوسامة أو قبح المنظر، أو الطول والقصر، ولكن كلها قد تكون معطيات غير دقيقة للحكم على أي إنسان نراه لأول وهلة، لذا يستوجب علينا قبل الحكم على الشخص أو إبداء مرئياتنا حوله التأكد أولا من تصرفاته وأعماله، وما يظهر بشكل جلي على أخلاقه وأمانته وانفعالاته، وما يقوم به من إصلاح أو تحريش وتفريق بين الناس، أو ما يتجلى في سلوكه من صيانة للعهود والمواثيق أو نقضها. هناك طرق وأساليب عدَّة يمكننا من خلالها الحكم على الآخرين، وإبداء الرأي فيهم. ومن المنطقي وقبل الحكم وإبداء آرائنا على الغير، أن يكون الشخص مدركا لما هو مقبل عليه، فالحكم على الغير ليس بالأمر السهل أو اليسير الذي يمكن أن يتصوره البعض منا، بل إن ظن أحدكم عكس ذلك وأنه سهل يسير، فإن ظلماً كبيراً يقترفه صاحب الرأي بحق من يحكم عليه قبل أن يكون ظلماً بحق نفسه. وخير دليل على هذا سوء فهم سيدنا موسى للنبي والولي الصالح الخضر حسب ما ورد في القران الكريم، وأخيرا أقول لكم إخواني لا تحكموا على الناس من خلال مظاهرهم وأشكالهم المظهرية وما سمعتموه عنهم فقط، بل خالطوهم لتختبروا جوهرهم ومعدنهم ولكم بعد ذلك أن تحكموا بما شئتم، مصادقا لقوله تعالي ” وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي” وما دمنا نتحدث عن حسن الضن وعدم سوء الفهم فإياك اعني أيها الجار الآخذ في سوء الضن والجار، لان الجوار في السياسة هو جغرافية لا يمكن تغييرها وهذا الواقع يقتضي الكثير من الحكمة وحسن الضن وعدم الفهم الخاطئ والمتسرع للحفاظ على حسن الجوار والعلاقات الطيبة، من خلال عدم التسرع في الحكم على الجار واخذ مواقف وقرارات عدائية تمس بهذا الجوار.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...