عجّت فضاءات التّواصل الاجتماعي بنقاش أخذ حيّزا كبيرا في فضاء التّداول الافتراضي بخصوص الفن المعماري “الزّليج” بعد ظهوره في أقمصة المنتخب الجزائري.
وأثار الإشهار الترويجي للقميص المزين بهذا الفن المعماري حفيظة المغاربة، ليس فقط على مستوى نقاش الرأي العام، بل لدى الجهات الرّسمية التي ذهبت بعيدا حين هدّدت الشّركة الراعية بالمتابعة القانونية، باعتبار أن هذا الفن المعماري ملكية فكرية خالصة للمغاربة.
تواجد هذا “الزليج” في قصر المشور في تلمسان بالجزائر، وفي المغرب وكذلك بالأندلس، بل وفي المشرق، خلق التباسا يهم بالضبط سؤال: من تأثر بالآخر؟، ومن أخذ عن الآخر؟ أي أين الأصل وأين الفرع؟، وبالتالي من له الحق في الملكية، فإن أكدت وزارة الثّقافة المغربية أحقيتها بذلك، بعد تسجيلها “الزليج” الفاسي وتحفيظه، فإن الموضوع يحتاج فعلا إلى احاطة علمية مقرونة بالمتن التاريخي.
“الأنباء tv” تفتح الموضوع من خلال مقاربة أخرى تتجاوز جانب التجاذب السّياسي والانتصار للذات الى محاولة للإحاطة التاريخية والعلمية بالموضوع من خلال حوار مع هشام الأحرش، المُهتم بالتاريخ والحضارة المغربية، وذلك بتقديمه معطيات تاريخية مهمة، قد تساهم في الإحاطة بهذا الموضوع واستيعاب أصوله وجذوره.
وهذا نص الحوار كاملا:
أولا يجب التّمييز بين الفسيفساء الرّوماني والبيزنطي وبين الزّليج، والفسيفساء، حسب مصادر التّاريخ هي مادة وُجدت في العَهد الروماني والبيزنطي، وهي موجودة مثلا في مناطق بالمغرب حيث التّواجد الرّوماني، أي في وليلي، بل وجدت حتى في شالة بالرّباط، ويتكون هذا النّوع من الفُسيفساء، من الحجر أو الرّخام وحتى الزجاج، ويستعمل في الأرضيات والجدران، وهو عبارة عن أشكال هندسية يتم من خلالها تصوير الحياة اليومية في الغالب.
أما بخصوص الزّليج الموجود اليوم فأصله من الشّرق البعيد، ونتحدث هنا عن حضارات بين النّهرين، ويسمى بالفسيفساء ذات البريق المعدني، إذ تُستعمل فيه مادة الطين التي يتم صباغتها بمادة تتكون من معدن، لهذا سميت بفسيفساء البريق المعدني، ويتميز بسهولة التشكل بأحجام متعددة، باعتبار مكونه الأساسي وهو الطّين، عكس الفسيفساء الروماني والبيزنطي التي تُستعمل فيها الحجارة التي تتطلب مجهودا ووقتا.
إذن ففسيفساء البريق المعدني وُجدت في مجال ما بين النّهرين ولديها تواجد تاريخي لأكثر من 3000 سنة، لتنتقل، حسب المؤرخين من المشرق نحو المغرب.
هناك فسيفساء وُجدت في المسجد الأموي الأول، وهي مشهورة جدا وفيها رسومات حيوانية، وبالتالي فهي فسيفساء بيزنطية أساسا، بالإضافة الى الفسيفساء الموجودة في قبة الصخرة كأقدم صرح إسلامي موجود الى اليوم، فالذين تحدثوا عن هذه الفسيفساء قالوا إنها فسيفساء بيزنطية أيضا، لأنها وجدت في مجال الحضارة البيزنطية الموجودة في منطقة الشّام.
وإذا رجعنا دائما الى مصادر التاريخ، فالمؤرخين يتحدثون عن أول فسيفساء وجدت في الاندلس، وهي فسيفساء محراب مسجد قُرطبة الأول في فترة عبد الرحمان الداخل، حيث أكدوا على أنها هدية من الامبراطور البيزنطي.
ثم بعد ذلك ستنتقل الفسيفساء ذات البريق المعدني الموجودة في الشرق إلى الاندلس مع بداية من القرن الثامن والتاسع، حيث بدأت تتشكل معالم هذه الفسيفساء، ليتفوق بعد ذلك التلميذ على أستاذه، فالأستاذ هم الحرفيون البيزنطيون، وطبعا كان جزء منهم عربا، لأن بيزنطة كانت تتواجد بمجال الشام وسوريا وغيرها، فهو بالتالي مجال عربي أساسا.
بعد ذلك، بدأ الكثير من الحرفيين والصناع ورجالات الدولة ينتقلون -بعد سقوط الخلافة الأموية في المشرق- الى الخلافة الاموية الجديدة في الأندلس، وهنا بدأت تتشكل معالم الحضارة العربية الاندلسية، ومن تجليات هذه الحضارة المعمار الذي استفاد من كل هذا الموروث الانساني بما فيه الموروث المعماري الذي كان موجودا في الأندلس، وهذا ما نسميه العبقرية التي انتجت معمارا يسمى المعمار الاندلسي، الذي هو تمازج كل هذه الحضارات الإنسانية بما فيها الحضارة المغربية التي وجدت في الضفة الجنوبية.
لا. الذي يتحدث عن ذلك لا يفهم ما معنى تشكل العمران، لأن العمران هو تمازج الخبرات الإنسانية، فالخبرات الإنسانية تراكمت ليس لمئات السنين فقط، بل تراكمت على مدار آلاف السنين.
وهنا استحضر مثلا ما أوردته المصادر التاريخية، فحين أراد مثلا السلطان أبو يعقوب المنصور الموحدي ان يبني مسجد اشبيلية بصومعته الرائعة التي تسمى صومعة المنصور، سيستدعي العُمّال والبنّائين من المغرب، أي من مراكش وفاس الى غير ذلك، بمعنى أن الخبرات المعمارية المغربية أصبحت جزء من هذا النسيج ومن هذا المجال الجغرافي الذي فيه المغرب والاندلس، وبالتالي فهذه الضفتين كلاهما تنتمي لما نسميه المعمار المغربي الاندلسي، أي فيها نوع من التأثير والتأثر المتبادل.
هذا النوع من الفسيفساء تطور في زمن الدولة المرينية، فإذا كان الموحدون عمدوا إلى بناء صروح عظيمة تعكس عظمة الدولة بالأسوار والمساجد الى غير ذلك، فالمرنيين سيعمدون الى بناء بعض الصروح التي تميز بالجمال وبالدقة، وسنشاهد هذه مثلا في المدارس المرينية، مدرسة شالة التي بناها أبو عنان، أو في مدرسة سلا التي بناها أبو الحسن، والمدارس الموجودة في فاس والتي بناها أبو عنان، ومدرسة أبو سعيد عثمان إلى غير ذلك من المدارس.
ما قلته لا يعني أن الزّليج لم يكن في زمن المُوحدين، وان كانت لا توجد بعض المنشآت كالقصور التي اندثرت، لكن نؤكد أن الزليج موجود واستعمل في العمارة الموحدية، ولهذا نجد الصوامع الموحدية تُتوج بالزليج، ونتحدث هنا عن صومعة الكتبية التي يزين رأسها الزليج، وكذلك صومعة المنصور بالقصبة بمراكش، وغيرها من النماذج.
الذي أقوله في هذا الصدد، هو أن في الزمن المريني سيتم تطوير ما يسمى بالزّخارف المتعددة كالمُثمن الى غير ذلك من الاشكال الهندسية، فهذا الشكل الهندسي هو ما يسمى بالفسيفساء ذات البريق المعدني بأشكالها النّجمية، وهي عبارة عن نجوم وهذا النوع هو ابداع مغربي أندلسي خالص، فلا توجد اشكال نجمية في أي مجال جغرافي في العالم الا في هذه المنطقة.
في اللحظة التي سقطت فيها الاندلس بقيت مملكة غرناطة، أي بقيت تلك العلاقة في كلا الاتجاهين مستمرة، أي العلاقة بين الضفة الشمالية والجنوبية بشطريها الغربي والشرقي، ففي المجال الغربي نجد المرينيين، وفي المجال الشرقي نجد دولة بني زيان، أي الدولة الزّيانية، فبقي التأثير والتبادل بين كلا الضفتين، ولكن مع تسجيل عمق هذا التأثير الكبير جدا من الجهة الغربية، بينما التأثير محدود في الجهة الشرقية.
قصر المشوار الذي ظهرت فيه تلك الفنون المعمارية بني في القرن 13 أي في الزمن المريني، فإذا رجعنا لكتب التاريخ، وحين نقرأ مثلا لابن الخطيب نجده يتكلم عن سقوط تلمسان حيث كان يُبارك لأبي عنان إذا كانت في يد المرينيين ويبارك للزيانيين إذا كانت في يد الزيانيين، بمعنى أنه في ذلك الزمان كان هناك تبادل لما يمكن أن نُسميه بمحاولات السيطرة والحكم.
وبالتالي فالمغاربة اؤتمنوا على هذا التراث، لأنه ابتداء من القرن الخامس عشر أو السادس العشر الجهة الشّرقية ستقع على يد حكم العثمانيين وسيتأثرون بالعمران العثماني، وهنا الزليج العثماني يختلف بشكل كلي عن الفسيفساء المغربية.
وما يمكن استحضاره هنا أن الجزائريين لما أرادوا أن يرمموا مسجد المشور في التسعينات، من تكفل بذلك؟ اكيد المغاربة، ونذكر كذلك قصر الحمراء في التسعينات والثمانيات، فكلما احتاج قصر الحمراء الى الترميم تتدخل الايادي المغربية، لأن هذه العملية أصبحت جزء من الجينات المغربية لدرجة هناك حديث عن أن التراب الجيد والذي يستعمل في هذه الصنعة لا يوجد إلا في فاس.
وهنا أذكر مسألة في غاية الأهمية، ويتعلّق الأمر بالتّسميات فهي كلها من الدارجة المغربية، فنتحدث مثلا عن “المُثمّن بالقطيب”، ونجد مثلا نقوش في صومعة المرينيين بشالة لأبي عنان فيها نقوش تسمى “معشر بالقطيب” و”قمرشون بالخاتم”، وغيرها من التسميات التي أدعو المغاربة والقراء الى البحث عنها فالذي “يُبدع هو الذي يُسمّي”.
أولا لابد أن نُسجل أمر إيجابي مُتعلق باستمرار استعمال هذا الفسيفساء في المساجد، لكن في نفس الوقت، فالوضع الذي وصلنا اليه، أي حال الصناعة التقليدية ببلدنا بصفة عامة يُسائل المكلفين بالقطاع، فتوارث الخبرة من خلال مدارس قوية تحافظ على هذا الإرث يسائل المعنيين عن برامجهم ودعمهم لضمان بقاء الخبرة وتناقلها بين الأجيال.
نسجل كذلك غياب هذا المعمار في بعض مؤسسات الدولة، فالذي يسجله التاريخ أن الذين حافظوا على هذه الصناعات هم الملوك، سواء في القصور، أو المساجد، أو في الاضرحة، وتعرف أن الكثير من الحرف تم احياؤها في بعض اللحظات وفي مناسبات محددة مثلا عند تشييد مسجد الحسن الثاني تم إحياء الكثير من الأشكال الفسيفسائية.
حين نرجع مثلا الى ضريح محمد الخامس نجد فسيفساء رائع وهو “مخبل العقول” وقد سماه المغاربة بهذه التسمية بالدارجة، وبالتالي فجزء من إحياء هذا المعمار مرتبط بحضوره في مؤسسات الدولة، وأنا أتساءل عن عدم وجود ولو جزء صغير منه في المكتبة الوطنية مثلا وغيرها من المؤسسات، فنحن بحاجة الى إعادة الاعتبار لروح “تمغربيت” في العمارة ككل، بفسيفسائها وبطريقة هندستها واشكالها والمواد التي تستعمل فيها وغيرها..
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...