في دول الهشاشة الديموقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ونحن من ضمنها، نحتاج إلى السياسة بمعناها النبيل، ونحتاج أكثر إلى أن نستمع للساسة، ومنهم على وجه الخصوص الذين تدرجوا في السياسة وخبروا دروبها وشعابها، وتخرجوا من محاضنها الطبيعية ومساراتها الاعتيادية. ويكون الاستماع لمثل هؤلاء الساسة آكد وأنفع حينما يكونون ممن مارسوا السياسة بقدر معتبر من النبل والإخلاص والنزاهة، ولم يكن كسبهم من هذه الأخيرة استفادة غير مشروعة واغتناء بمال عام حرام.
وفي هذا السياق، لو أننا طلبنا من متابع محايد للشان السياسي الوطني أن يختار بموضوعية ونزاهة أبرز السياسيين خلال ثلاثة عقود الأخيرة لكان المصطفى الرميد واحدا منهم من دون شك، ولو أننا طلبنا من المنصفين من أبناء العدالة والتنمية أن يخرجوا للناس كبار رجالاتهم ورموزهم الذين طبعوا تجربتهم وأثروا في مسارهم لما غاب المصطفى الرميد عن اختيارهم بكل تأكيد.
في هذا الإطار تكتسي الخرجة الإعلامية الأخيرة للرميد أهميتها الخاصة، فهو ليس راويا لأحاديث ومرويات، أو ناقلا لأخبار استرق سمعها، بل هو فاعل رئيسي ومن درجة أولى في إحدى أهم التجارب السياسية للمغرب المعاصر، وهو فضلا عن ذلك متين الرأي وقوي الحُجَّة، وهذه أمور لوحدها تجعل من الاستماع بتمعن للرميد أمرا محمودا ومطلوبا، بغض النظر عن مضامين الحوار التي تحتمل الصواب والخطأ وتسع الاتفاق معها أو الاختلاف. وتزداد أهمية خرجة المصطفى الرميد حين قياسها بحالة “الجفاف” السياسي، حيث تتمدد كائنات وعجائب وغرائب الثامن من شتنبر لتملأ دنيا الشأن العام هزالا وإسفافا.
لكن للأسف الشديد، وبعد مرور وقت كاف على نشر الحوار الممتع والطويل، ساءني جدا ما تعرض له المصطفى الرميد من تهجمات وإساءات بالغة. كما ساءني سلوك بعض القوم الذين يستكثرون على الفاعلين السياسيين أن يتكلموا، وودوا لو أن الرميد لم يتكلم حتى يختاروا له هم التوقيت والمضامين وصيغ التعبير. والغريب أنك تجدهم يعيبون على الساسة الصمت والسكوت وعدم التعبير، فإذا خرج أحد للتعبير انزعجوا وأزعجوا.
وللأسف لم أجد فيما اطلعت عليه في كثير من التفاعلات، كلاما مفيدا يصحح معطيات خاطئة قدمها الرميد، أو يفكك تحليله ويقدم بناء مختلفا، لكنني وجدت في المقابل همزا ولمزا وتسفيه بكلام مرسل لا يقيم حجة ولا يقدم دليلا، ووجدت أيضا اتهامات بالجملة جاوزت الرأي وقفزت على مضامين الحوار، واتجهت صوبا إلى شخص الرميد اتهاما وتسفيها، وللأسف فقد كان أرذلها وأكثرها حقارة تلك التي أخرجها بعض المنتسبين للعدالة والتنمية، والذين لم يراعوا لا سابقة ولا فضلا، وكأنني بهم يتحدثون عن شخص لا يشفع له نضال ولا عطاء ولا كسب ولا بلاء. وتلك آفة وقاصمة من آفات وقواصم كثير من المنتسبين للإصلاح الذين لا يُخْجِلُهم أن يهشموا ويرذلوا رجالاتهم وقادتهم.
والحقيقة أنني أستغرب كثيرا أمر بعض من لا يطيقون سماع رأي مختلف، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع مضامين “الرأي الآخر” كما عبر عنه الرميد، فهو لم يقم بأمر ممجوج ومستقبح أو مكروه، بل إنه مارس حقه الطبيعي في حرية الرأي والتعبير، فروى “سرديته” بطريقته الخاصة، وبما استقر عنده من خلاصات، وبما رجح عنده من رأي ومعطيات، وهو في كل ذلك حر طليق، له أن يختار المنبر الذي يلائمه وله أيضا أن يختار التوقيت الذي يرضيه، فما الذي يزعج في كل هذا؟ ولماذا ضاق “خُلُقُ” البعض وساء وترذل؟، وما بال هؤلاء الذين لا ينتجون، كما جرى بذلك عملهم، رأيا ولا تحليلا أو تصحيحا أو تسديدا، بل كل إنتاجهم فجور في الخصام ونكران للخلان وقذف وتجريح للإخوان، ومن ذلك ما رموا به الرميد من اتهامات مرسلة بالتولي يوم الزحف والهروب من تحمل المسؤولية، والجبن السياسي، وغير ذلك من ساقط القول وسَقَطِه.
والحقيقة أن الخرجة الإعلامية للمصطفى الرميد تستحق الترحيب والإشادة، بل وتستحق التقليد من قبل من عموم السياسيين، ومن قادة العدالة والتنمية الصامتون على وجه الخصوص. والكلام الذي رواه الرميد يستحق النظر ويستحق التأمل والتفكر، فهو فاعل من الصف الأول، وهو شاهد عيان يروي مشاهدة لا سماعا، وهو فضلا عن ذلك مناضل أصيل ومخلص ومعطاء، وقامة من قامات الوطن، فلا يحدث أن تجود السياسة في وطننا هذا بساسة من حجم الرميد في كل وقت وحين.
ولذلك رأيي أن الاستماع للرميد والتأمل في روايته والاشتباك معها اتفاقا واختلافا وانتقادا واستدراكا وتسديدا وتصحيحا كل ذلك مطلوب من كل مهتم بالشأن السياسي الوطني، لكنه آكد في حق ما صح من أعضاء العدالة والتنمية. فمن أراد خيرا بالعدالة والتنمية وجب عليه أن يلقي السمع وهو شهيد، ومن ذلك أن يفتح عقله ليتسمع إلى أجزاء أخرى من الحقيقية، وإن كانت مؤلمة، لعل ذلك يسهم في استعادة المبادرة وتصحيح ما ينبغي تصحيحه. وأسوأ ما يمكن أن يبتلى به الحزب وأعضاؤه، وهم يمرون بمرحلة صعبة، هو استغناؤهم بالرواية الوحيدة وميل نفوسهم إلى سماع ما يشبه “المورفين”، وهم بذلك يستحسنون رفع الإحساس بالألم، دون علاج أصل الداء، وكلما ازداد ألمهم ازداد طلبهم على جرعات أقوى من “المورفين”، حتى يأتي زمان عليهم يغلب فيه الألم الجرعات، فلا يبقى للمورفين أثر وجدوى، فتأتي لحظة الحقيقة التي تعري استشراء “المرض العضال” فلا المورفين نفع، ولا الداء استؤصل وزال، فيكون الموت الذي لا راد له.
قبل الختم، هل كل ما قاله الرميد في حواره من أحداث ووقائع ومعطيات، وكل ما قدمه من وجهات نظر وآراء وتقييم هو الصواب الذي خطأ بعده، وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟ طبعا هذا كلام لا يقول به عاقل، لكن يحسب للرميد أنه كسر بعض الصمت، ويحسب له أيضا أنه تكلم ببعض ما جرى، وإن كان في كلامه مُقِلًّا ومحتاطا، ورأيي أن المسؤولية التاريخية والأخلاقية والقيام بواجب الشهادة، كل ذلك يقتضي الحديث بوضوح أكبر، وتقديم كثير من المعطيات التي يمكنها أن تنفع مسارات الإصلاح وتجارب الأجيال القادمة.
ختاما، أعلم أن هذا الكلام سيخرج فئة في الحزب اعتادت مجابهة الرأي بالهمز واللمز والجرح والتجريح، واعتادت على الابتعاد عن حسن القول وجميل العرفان، والمنتمون لهذه الفئة هم منسجمون مع مسارهم داخل الحزب، بحيث لو تتبعته فلن تجد لهم حضورا وقت العسرة، ولا إسهاما حين الشدة، وأحسنهم مسارا لن تجد له كسبا بعشر معشار ما قدمه الرميد وغيره من رجالات الحزب، وكل رأسمال هؤلاء هو “النضال بالحِرَاسَةِ واللِّحَاسَةِ”، وهم القيعان الذين لا ماء يمسكون ولا كلأ ينبتون، وهم أولئك الذين قلت في زمن مضى أنهم دابة الأذى التي تأكل منسأة القادة، كذلك كانوا وكذلك سيظلون، فلا سامح الله كل من أفسح لهم مجالات الأذى ووفر لهم لأجل ذلك الغطاء والوجاء.
#دمتم_سالمين
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...