حقيقة نحن البشر مساكين، ولا حول ولا قوة لنا، وحتمية الظروف التي نعيشها، حيث نجد أنفسنا نُطارد الأوهام (L’illusion) في كل صوب، ثم نكتشف أنها أوهام، وبعدها بدقائق وساعات قليلة نرى أوهاما جديدة في الأفق فنُطاردها مرة أخرى، على الرغم من أن هناك نظرية للمفكر شارل بودلير (Charles Baudelaire) تقول أن من يبني آماله على الأوهام، يجدها تتحقق فعلا ولكن فقط في الأحلام.
فمن منا يوما لم تسيطر عليه أوهامٌ ومعتقدات، سواء كانت سلبية أو إيجابية خاطئة أم صحيحة، تغلغلت في عقله ومخيلاته الفكرية، وقادته في بعض الأحيان إلى إفساد كل ما بناه، بعدما حولته من إنسان مُعافى إلى إنسان مريض وأسير لذلك الوهم، مما يلجأ في بعض الأحيان إلى الكذب لإخفاء الحقيقة تحت غلاف المنطق.
فالوهم كما عرّفه بعض الفلاسفة هو أنّه خطأ في الإدراك والتشوه الحسي، وسوء تفسير الإحساس الحقيقي، والبعض الآخر يرى على أنه إيمان الشخص بمعتقد خاطئ وبشكل قوي، وبأنه شكّ ووسواس قد يصيب الفرد منا، فيجعله يرى بعض التصوّرات غير الموجودة على أنها واقع وحقيقة، مما تجعل عقله وجسده وأحاسيسه تعيش في وهم وشك ضلالة، وخير دليل على هذا قصتنا التالية: “حيث يحكى أن رجلا زار أحد الاشخاص وقت العشاء، فدعاه لشرب الحساء، ورأى في الطبق أفعى صغيرة، لكنه رغم ذلك استمر في الشرب، مخافة أن يحرجه، وحين عاد الرجل إلى بيته ظل قلقا، وشعر بألم شديد في بطنه لم يمكنه من النوم، وعند الصباح قصد بيت الشخص الذي دعاه للعشاء لاستفساره عن الأمر، وكم كانت دهشته عظيمه عندما أخبره، أنه لم يكن في الطبق أي أفعى وإنما كان هذا انعكاسا لصورة أفعى مرسومه على السقف. ولتأكيد كلامه، سكب له طبق حساء آخر ووضعه تحت سقف حجرة الطعام فانعكست فيه على الفور صورة الأفعى التي رآها بالأمس. واندهش الرجل أكثر حين أحس بزوال ألم بطنه فور معرفته بالحقيقة. وهنا قال له داعيه للعشاء: الأفعى يا أخي أوهمتك فتجدرت في عقلك وجسدك فقط” لذا فالوهم له قوة نفسيه عجيبة قد تتحول إلى واقع محسوس في نفس الإنسان المتوهم إذا لم يتم معالجته.
وصدق عالمنا العربي ابن سينا حين قال الوهم هو نصف الداء، لكن المفكر فريديريش نيتشه (Friedrich Nietzsche) يرى أن التخلص من الوهم، هو أمر جد صعب، ولكن يمكن أن يكون نافع، كما يمكن التعايش معه في بعض الأحيان إذا كان قد يسعد الانسان ويخرجه من دوامات الحزن التي تتجدر في أعماقه ولو بشكل مؤقت.
وبالتالي، فإن مَن يتبع بُنية الوهم يمكنه لا محالة الوقوف على ثلاث ركائز، يكفي أن يتلبّس واحدة فقط منها ليغرق في بحر الوهم، وهي: جهل الشيء، أي عدم معرفته والاستفسار عنه، أو الخوف من الشيء كالموت، أو فقدان الشيء الجميل، وأخيرا قياس الشيء، فإذا قلنا: مثلا طائر يمكن أن نحكم عليه دون تفكير، أو أن نشاهده بأنه كائن ذو جناحين بغض النظر عن تحققنا من طبيعته الجسمانية.
وأخيرا أختم مقالي هذا بحكاية طريفة لعلها تكون عبرة لنا نحن البشر للقضاء عن ملذات الأوهام غير النافعة، التي تصيب عقولنا ومخيلاتنا الفكرية في بعض الأحيان، وما أكثرها في زمننا ووقتنا الحالي، ” حيث يحكى أن رجلا كان يفتخر ويوهم نفسه أنه أذكى وأعلم الناس، فسأله يوما شخص جالس معه على مائدة الغذاء، عن مفهوم الفلسفة، فأجابه المتوهم بفكره وتقته وتوهمه الزائد، ألا يوجد أمامنا صحن مرق به دجاجة واحدة، فرد عليه الشخص الأخر نعم صحيح، فقال عالم زمانه استطيع بعلمي وفكري أن اقنعك أنه ما يوجد في الصحن هو دجاجتان وليس دجاجة واحدة كما تعتقد وترى، فرد عليه الشخص الأخر بفطرته ورجاحة عقله السليم، ما شاء الله أنا الآن فقط اقتنعت أنك عبقري، ومد يده وأخذ الدجاجة وقال لمتوهم فكره وزمانه، الآن خذ الدجاجة الثانية وكلها إن وجدتها” .
صراحة أن الوهم، مشكلته ليست في ذاته، وإنما في التشبث به، بعد انكشافه وانتهاء صلاحيته. والأكثر إشكالا من ذلك عندما يتحول هذا الوهم إلى معتقد ديني وفكري، أو مسلّمة اجتماعية، أو تجارة يُستغل بها الناس، أو سياسة تُخدع بها الشعوب والمجتمعات، وربما يبلغ الحال إلى الاقتتال أو الإقصاء وشتم الناس لبعضهم البعض بسبب الوهم، على الرغم من إدراكهم أن احتمالات صوابه لا تفوق 0.10 بالمائة.
وختاما أقول:
دع الأمور والأقدار تجري في أعنتها …. ولا تنم الا خالي الوهم والبال
ما بين طرفة عين وانتباهتها ……… يغير الله من حال إلى حال
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...