كم هي لحظة صعبة، هي لحظة تأبين رفيق مناضل شهم، بل هي من أصعب اللحظات، و يزداد الأمر صعوبة و أنت تؤبن مناضلا إنسانا من حجم الرفيق “إبراهيم ياسين” حكيم الحزب الإشتراكي الموحد و حكيم اليسار المغربي. رفيق و إن لم تسعفك الظروف و لا متطلبات الحياة و منعرجاتها أن تعيش معه و تعايشه عن قرب، لكنك في المقابل عشت مع أفكاره و مواقفه و كتاباته و تجاربه و قراءاته لمدة تزيد عن أربعة عقود . الحكيم ، حكيمنا السي ” إبراهيم ياسين ” من الرفاق الذين لا يمكن إلا أن نقع في حبهم ، نحبهم في صمتهم و هم ينصتون، و نعشقهم في حديثهم و هم يحللون و يستنتجون، و نقدرهم و هم يفكرون و ينظرون، نحترمهم نقدرهم نكبر فيهم ثباتهم على مبادئهم و قيمهم الأصيلة و ما بدلوا تبديلا. السي إبراهيم ياسين كان و سيظل بمواقفه شمعة من شموعنا المضيئة التي يخترق ضوؤها عتمة و ظلمة هذا الزمان . اليوم و نحن نؤبن رفيقنا، أستاذنا، حكيمنا السي إبراهيم ، نقف جميعنا مصدومين أمام رحيل هرم من أهرامات حزبنا الحزب الإشتراكي الموحد، أمام رحيل مناضل من طينة خاصة، رحيل غير متوقع، رحيل موجع و مؤلم، رحيل رجل آمن حتى النخاع بأفكاره، و ضحى لأجل قيمه، صمد دفاعا عن مبادئه. السي إبراهيم الحكيم كما عرفته مواطن بسيط، بساطة الزهرة التي لا تبخل بعطرها على الجميع، شهم في زمن قلت فيه الشهامة، منصت كحكماء التاريخ، هكذا هو الحكيم إبراهيم مناضل مع المناضلين، مثقف مع المثقفين، مؤرخ مع المؤرخين، متواضع و زاهد لحد تحسبه آخر المتصوفين، صلب عندما يتعلق الأمر بقضية من قضايا الشعب و قضايا الوطن، نظيف الروح و القلب. هكذا عرفته عن قرب و هكذا خبرته إبان حراك 20 فبراير 2011، قبل و خلال و بعد مجالسنا الوطنية التي كانت مفتوحة على الدوام و مفتوحة على كل الاحتمالات. كان أبعد المناضلين عن التعصب و عن الغضب، و كان أقرب الناس لمعاناة المقهورين. عاش و قضى نحبه وفيا للشعب يحمل الهم العام و لا تستهويه لا المناصب و لا الصفوف الأمامية، يتهرب من التواجد كلما هيئ له مقعد القيادة، و في المقابل لا يتهرب من المسؤولية و لا يتكل على غيره لإنجازها . السي “إبراهيم ياسين” حكيم الحزب و حكيم اليسار جمع بين العمل النضالي الميداني الجماهيري و العمل الفكري الأكاديمي التنظيري، جمع بين التنظير و الفعل، بين الوجدان و العقل، بين الميدان و الفكر. بين مدرجات الجامعة و ساحات الشوارع، يفكر و ينظر للهم العام و ينزل للميدان ليخوض تجربة الفعل، تجربة العمل السياسي و العمل التنظيمي و العمل الجماهيري. أسرعوا … انتبهوا … ” ياسين” سيتدخل هكذا ينادي المنادي .. مداخلة الرفيق إبراهيم ياسين اقتربت… كان يكفي سماع هذا النداء و هذه الجملة ، ليسرع جميع الرفاق و الرفيقات لإطفاء سجائرهم و مغادرة الساحة المجاورة للمقر و إخلاء بهوه و للالتحاق بالقاعة الكبرى لأخذ مقاعدهم أو الانتصاب وقوفا … فالجميع، الجميع يريد الإنصات لمداخلة الحكيم ، الحكيم يتكلم .. يعم القاعة صمت عظيم، فلا تسمع صوته صارخا و لا عاليا بل يمضي هادئا بسيطا، محللا منظرا، شاحذا للهمم، مقويا للعزائم، مصوبا لكل جنوح نحو التطرف، كابحا لجماح أي تعصب، تعلو وجهه الطفولي ابتسامة بريئة ترافقها نظرة شيخ حكيم خبر الزمان و اختباراته .. ثم يعود لمكانه هادئا بسيطا، مصغيا للجميع، مسجلا في مذكرته ملاحظاته و تعليقاته. السي ” إبراهيم ياسين” حكيم الحزب و حكيم اليسار، محبوب المناضلين، هكذا أحببته ، أحببت فيه نظرته للمستقبل و قراءته للماضي، و هكذا عشقته، عشقت فيه تحاليله و استنتاجاته، تدبره و خلاصات نظرياته. و من قلب هذا الحب و ذاك العشق اتفقنا و اختلفنا و عدنا و اتفقنا. نعم اختلفنا اختلافا كبيرا حول قراءة مسار حركة 20 فبراير و هي في أوج عطائها ، اختلفنا حول نهجها و مستقبلها، أمضينا النهار نناقش الأمر و أصر أن نصحبه أنا و رفيقنا الراحل “أيمن المرزوقي” لمنزله حيث أكملنا الليل نناقش و اختلفنا. لم يكن خلافنا على منصب و لا موقع و لا على مكسب أو مغنم ، بل على أي الطرق أفضل للوصول لمغرب الغد، مغرب الحرية و الكرامة و الديمقراطية و العدالة الاجتماعية . تناقشنا ساعات و ساعات حول حركة 20 فبراير حول مسارها و مسيراتها و خاصة بطنجة، حول الأخطاء و تصحيح الأخطاء، حول الاستراتيجية و التكتيك، حول الحلفاء و الأصدقاء و باقي تنظيمات الحراك، لم ينطق السي إبراهيم الحكيم بكلمة سوء، لم يغضب، لم يرفع صوته، لم يتحجج بأنه أخبر مني و لا أعلم مني و لا أكثر مني تجربة رغم أنني كنت أدرك في قرارة نفسي هذه الحقائق. طلع علينا الصباح و لم نتفق و افترقنا و نحن على اختلاف لا على خلاف، حيث ظلت الأمور على طبيعتها بيننا .. ليزداد احترامي بل و تقديسي لرفيقنا حكيمنا “السي إبراهيم ياسين” أشجعنا و أقوانا على حمل و فهم هموم الشعب و الوطن. نؤبن اليوم فقيد الوطن حكيم الحزب و حكيم اليسار، و لم يمض على عقد مؤتمرنا الوطني الخامس سوى بضعة أشهر، المؤتمر الذي انعقد تحت شعار ” نضالنا اليساري من أجل الشعب و الوطن و الديمقراطية “، فهل يمكننا أن ننسى بصمات رفيقنا و آثاره على حزبنا، و هو من أوائل المناضلين الذين انخرطوا في الأنوية الأولى لليسار الجديد بالمغرب ؟أننسى أن حكيمنا هو من تحمل مسؤولية قيادة التنظيم بالداخل إبان حملة القمع و الاعتقالات التي طالت عددا من أطر و قيادات اليسار في نونبر 1974؟ أننسى دفاعه عن مغربية الصحراء و هو ببلاد المهجر عندما غادر أرض الوطن بعد أن اشتد عليه الحصار؟ أننسى مساهماته و عمله الجبار و هو بباريس من أجل توسيع قاعدة منظمة 23 مارس و تأطير الطلبة و العمال؟ أننسى مقالاته و كتاباته في جريدة أنوال التي اختارته قيادة الحزب ليكون مديرا سياسيا لها لتصبح بعدها الصوت القوي للمنخرطين في معركة الإصلاح السياسي و الدستوري؟ أبدا لن ننسى أن رفيقنا و حكيمنا من مؤسسي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي بل و لعب دورا أساسيا في بناء هياكل المنظمة مركزيا و جهويا. رفيقنا و حكيمنا الذي ودعنا جسده قبل أسابيع، ستظل روحه و أفكاره تعيش بيننا و تؤطر عملنا، كان مؤمنا بضرورة وحدة النضال اليساري و من خلال إيمانه هذا شارك بقوة في عمليات تحضير و تأسيس الكتلة الديمقراطية سنة 1992. إيمانه بالنضال الوحدوي اليساري دفعه إلى المبادرة بالاتصال بقادة فصائل اليسار بعد أن لاحظ انزياح أحزاب الكتلة عن مسارها النضالي بتصويتها بنعم على دستور 1996، ففتح نقاش الوحدة معهم ليفرز هذا النقاش تأسيس حزب اليسار الإشتراكي الموحد، ليساهم بعد ذلك في تأسيس الحزب الإشتراكي الموحد. السي إبراهيم ياسين حكيم اليسار و حكيم الحزب و منظره، عاش مقتنعا و مؤمنا بأن لا تقدم للوطن بدون تأسيس ملكية برلمانية، و مؤمنا بأن هذا التأسيس لا يمكن أن يتحقق إلا عبر بوابتان : بوابة وحدة تنظيمات اليسار و بوابة الانخراط في النضالات الشعبية و تقويتها ، إيمانه هذا هو ما جعله ينخرط انخراطا كليا في حركة 20 فبراير و أن يخرج في مسيراتها متقدما صفوف الشباب و مؤطرا جموعاتهم، إيمانه هذا دفعه كذلك لشد الرحال للحسيمة ليشارك أبناءها احتجاجاتهم مساندا لمطالبهم. خلاصة القول لقد كرس السي إبراهيم ياسين حياته خدمة للشعب و خدمة للوطن ، و مع هذا و ذاك كرس حياته لبناء هذا الحزب و لرسم خريطة طريقه و وضع تصميم بنائه. حكيمنا و فقيدنا ضحى بالغالي و النفيس من أجل هذا الحزب ، على يديه و على نهج أفكاره تربي العديد من المناضلين و أنا واحد منهم، و إذا كان حزبنا اليوم يحظى بالاحترام و التقدير، و يحظى بهذا الحضور المتميز على كل مساحات الوطن، فإن الفضل كل الفضل يرجع لمناضلين هم من طينة “السي إبراهيم ياسين” الذي ترك فينا كنزا أخلاقيا و نضاليا و فكريا لا يفنى . اليوم نودعك رفيقنا و حكيمنا و أستاذنا ، نودعك و لسان حالنا يقول هنيئا لك أيها الرفيق لكونك عشت مناضلا نقيا محبوبا صامدا مرفوع الرأس منتصب القامة، و انتقلت إلى الدار الأخرى مكرما مؤبنا تأبين الأبطال الأحرار ، و داعا حكيمنا وداعا أستاذنا و عهد الله ستظل قيمك مزروعة فينا ، رحم الله فقيدنا ” إبراهيم ياسين “و أسكنه فسيح جناته و ألهمنا جميعا الصبر و السلوان.
ابراهيم ياسين اليسار
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...