قادتنا التزاماتُ برنامج الكتابة العالمي الذي أشارك فيه هذا الخريف إلى شيكاغو حيث قضينا ثلاثة أيام. كنّا نقيم في الدّاون تاون، في “وسط البلد” بعبارة أشقائنا المصريين. كانت الرّحلة من مدينة آيوا، حيث أسكن، إلى شيكاغو طويلة. قاربَتِ الخمس ساعات بالحافلة. عبرنا خلالها المسيسيبي، هذا الوحش الأزرق الجبّار. في شيكاغو كان لنا برنامج مُسَطّر سلفًا مع مدرسة معهد الفنون، وزيارة لا سبيل إلى تفاديها إلى متحف معهد شيكاغو للفنون، أقدم وأكبر متحف فنّي في الولايات المتحدة الأمريكية. خارج ذلك، كان وقتُنا في المدينة حُرًّا. وكنّا بذلك سعداء. زُرنا بارك شيكاغو الكبير. التقطتُ صورةً أمام برج ترامب الذي يُعتَبر ثاني أطول مبنى ليس في شيكاغو وحدها، بل وفي كلّ الولايات المتحدة. التقطتُ صورة أمام المبنى/الفندق رغم استيائي الشديد من مالكه، دونالد ترامب، سواء كشخص أو كسياسيّ، حتى أنني أراه التجسيد الأبشع لانهيار السياسة، ليس فقط في هذه البلاد، بل في العالم أجمع. كانت بحيرة ميشيغان تبعد عن الفندق الذي أقيم فيه بأقل من خمس دقائق سيرا على الأقدام. اعتبرت ذلك حظًّا كبيرا. فها هي أكبر بحيرة في العالم من حيث المساحة ضمن بلد واحد، وأضخم كتلة من المياه العذبة على سطح الأرض تقع على بعد خطوات منّي. انطلقتُ إلى البحيرة. زرتُها صباحا، وفي الظهيرة، ثمّ قبيل الغروب. كنت كمن يريد تخزين البحيرة البديعة في الحنايا قبل العينين. وكان للمشي على ضفّتها طعم السّحر. فقط وأنا بجانب بحيرة طبريا، انتابني هذا الإحساس. الإحساس بأنّ البحيرة قد تفوق البحر جمالًا وجلالًا. هذه مجرّد رؤوس أقلام عجولة أتقاسمها معكم، أصدقائي. ومع ذلك، لم أكتب عن المدينة. وأخشى أنني لن أكتب عنها. لا أخفيكم أنني حاولت، ولم أفلح. أنا المغرم بالكتابة عن المدن، وقد فعلتُ ذلك في “دفتر العابر” ثم في “مدائن معلّقة”. فما بال شيكاغو تتمنّع؟ هل تخشى ألّا كتاب في الأفق لتحتلّ موقعها بين صفحاته؟
لا أبدًا… شيكاغو متاحة لك أيّها العابر الجوّال، لولا أنّ طيف بيروت يراود البال. ما تمرّ به بيروت هذه الأيّام يقف حاجزًا بيني وبين شيكاغو. ثم إنّني لا أفهم. وأحبُّ أن أسأل العالم الذي كان حُرًّا: لماذا نحبّ مدنكم ونفرح بها، بل ونفخر بها، ثم نكتب بها وعنها، بينما أنتم لا تتردّدون في دعم من يقتُل مُدننا بشرًا وشجرًا وحجرًا؟ حتى الهواء النّقيّ يقتلونه في مدننا، بكلّ عنف وقسوة. بيروت، البهيّة الزكيّة الأبيّة، يقصفونها بكلّ وحشية. لا أريد الاسترسال، فالعبارة لا تُسعِف. لكنني سأعود الآن لأعانق شيكاغو، أعانقها بألفة وبلا ضغينة، رغم أنّني أكابد بيروت. سلامًا من شيكاغو. سلامًا لبيروت. ثمّ إنّني لن أكتب. وهذا كلّ ما باليد الآن: ألّا أكتب.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...