عبد الرحيم العلام*
جميل أن تستنِد الدولة على الدستور عندما ترغب في اللجوء إلى سياسة معينة، مثل لجوئها إلى الفصل الـ40 من الدستور عندما رغبت في إلزام الموظفين بالاقتطاع من أجورهم لصالح صندوق مواجهة تبعات الأزمة الوبائية؛ لكن هذا اللجوء إلى الوثيقة الدستورية لا ينبغي أن يكون فقط حينما يتعلق الأمر بحق للدولة، بل أيضا عندما يتعلق الأمر بحقوق المواطنين، خاصة إذا كان هؤلاء المواطنون في بلد آخر، حيث المعاناة من البعد عن الأهل وتقطّع السبل وجفاف الموارد.
وضع غير لائق
منذ حوالي الشهرين والمواطنين المغاربة العالقين في الخارج يطالبون دولتهم بأن تنظر إلى حالهم، وتسمح لهم بالعودة إلى وطنهم، حتى تجتمع الأم المرضع برضيعها، ويلتحم الشيخ الذي كان في رحلة علاج بأقاربه؛ لكن إلى حدود كتابة هذه الأسطر لامجيب لنداءات الاستغاثة التي أطلقها هؤلاء. صحيح أن الدولة حاولت أن تتكفل ببعض العالقين، وأسكنتهم على حسابها؛ لكن الشهادات التي نسمعها كل يوم تفيد بأن بعض هؤلاء المواطنين لم يتلقوا أي مساعدة، بل منهم من أحيل على جمعيات ومنهم من لم يجد من يسمع شكواه. في جميع الأحوال، وحتى إذا تكفلت الدولة بهؤلاء العالقين جميعا وآوتهم في الفنادق، فإنه لا يعقل أن يبقوا كل هذه المدة بعيدا عن أبنائهم وآبائهم؛ فهم ليسوا من أفراد الجالية الذين يرغبون في العودة إلى الوطن حتى تُغلق في وجوههم الحدود بشكل مؤقت، وإنما دفعتهم ظروف معينة إلى أن يوجدوا بالخارج لأسباب متعددة: العلاج، زيارات، سياحة، أو غيرها من الأمور الاعتيادية؛ بل منهم من انتهت تأشيراته، ومنهم من لم يعد قادرا على الإنفاق على نفسه أو هو في عالة على غيره. هل يُترك هؤلاء لمصيرهم؟ أليست الدولة مسؤولة عن كل مواطنيها أينما وجدوا؟
حلول
طبعا، توجد حلول عديدة لتجاوز هذه الأزمة؛ لكن ليس من ضمنها أن يبقوا خارج وطنهم، كما لا يوجد حلان دون ثالث: إما تركهم لمصيرهم أو استقدامهم دون إجراءات صارمة. نعم هناك دائما حل ثالث، وقد جرّبته بعض الدول ألا وهو إجلاء المغاربة العالقين بالخارج والتكفل بإقامتهم وتغذيتهم في الفنادق بالنسبة إلى الذين لا تظهر عليهم الأعراض، إلى أن يتم التأكد من خلوهم من الفيروس. أما الذين تظهر عليهم الأعرض فيحوّلون إلى الحجر الصحي الإجباري بالمستشفيات.
إذا كانت الحكومة لا تستطيع ماديا أن تعيد هؤلاء المواطنين العالقين، فلتفتح الباب للمواطنين في الداخل والخارج من أحل المساهمة، (رغم أنه من غير المعقول أن لا تتوفر الدولة على إمكانية لفحص وإيواء أقل من 30 ألف مواطن). أما تجاهل الدولة لمواطنينا العالقين في الخارج، فهو يتعارض مع التزامها إزاء مواطنيها.
مسؤولية الدولة؟
إذا كان للدولة تفسير آخر للموضوع، فليخرج وزير الخارجية وليخبرهم بحقيقة الموضوع، حتى إما أن يتفهموا طرح الدولة في الموضوع أو ينتقدوه، أما أن يُترك هؤلاء المواطنون عالقين في ظل أوضاع مأساوية قد تتسبب في تأزيمهم نفسيا، فنحن في بلدنا وبين عائلاتنا ومع ذلك نعاني من أزمات متعددة اجتماعية ونفسية، فكيف بمن يعاني الأمرين: معاناة الحجر ومعاناة البعد عن الوطن وقلة ذات اليد.
لقد أرسلت حكومات بعض الدول عبر العالم طائرات لنقل مواطنيها من كل المناطق وهم بمئات الآلاف، رغم أن هذه الدول تعيش أسوء أزمة في تاريخها ولكنها لم تتخلّ عن مواطنيها، وقد كان في إمكان هذه الدول أن تكتفي بإيوائهم في الفنادق الفخمة؛ لكن حكومات هذه الدول لم تفعل ذلك لأنها تهتم بمواطنيها، وتخشى أن تفقد مصداقيتها عند ناخبيها.. هل هؤلاء العالقون أفضل من المواطنين المغاربة العالقين في الخارج؟ أليس هؤلاء المغاربة تحت مسؤولية الدولة؟ ألا يدفعون ضرائبهم لدولتهم؟
في الإمكان استعراض عشرات الفصول الدستورية التي تُبرز أن الدولة مسؤولة تعاقديا عن حياة مواطنيها العالقين في الخارج، وأنه لا يوجد مبرر لعدم استقدامهم إلى بلدهم؛ فلا مبرر القوة القاهرة كاف لإقناعهم بأنه ما باليد حيلة، ولا مبرر الإمكانات المادية من شأنه أن يعفي الدولة من مسؤوليتها.
هل المغرب استثناء؟
المغرب ليس وحده من لديه أبناء علقوا في الخارج؛ لكن جل الدول تعاملت بإيجابية مع مواطنيها، وتمكنت من نقلهم إلى أوطانهم. ينص الفصل الـ16 من الدستور المغربي على أن: “تعمل المملكة المغربية على حماية الحقوق والمصالح المشروعة للمواطنين والمواطنات المغاربة المقيمين في الخارج، في إطار احترام القانون الدولي…”، وينص الفصل الـ17 على ما يلي: “يتمتع المغاربة المقيمون في الخارج بحقوق المواطنة كاملة”. أما الفصل الـ31 فيحمّل الدولة كامل المسؤولية على جميع مواطنيها أينما حلوا وارتحلوا: “تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنين والمواطنات، على قدم المساواة، من الحق في: العلاج والعناية الصحية؛ الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة”…
السلامة
الدولة مسؤولة أخلاقيا ودستوريا على سلامة مواطنيها: السلامة الأمنية والصحية والنفسية، فهي مُلزمة بنقلهم إلى بلدهم وعلاجهم وإيوائهم، وإلاّ ما شعور المواطن المغربي عندما يشاهد الطائرات الأجنبية تحط بالمطارات المغربية لكي تعيد المواطنين المغاربة الذين لديهم جنسيات أجنبية إلى الدول التي منحتهم جنسيتها رغم أنهم ليسوا في وضعية صعبة ما داموا في وطنهم وبين أهلهم، في مقابل عدم تلبية الدولة المغربية نداءات استغاثة المغاربة العالقين في الخارج، رغم أنهم في وضعية صعبة جدا، وليسوا بين أهلهم ولا جنسية أخرى لهم، ما الذي يمكن أن يشعر به المواطن سواء العالق في الخارج أو الذي يراقب في الداخل؟
*أستاذ القانون الدستوري [email protected]
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...