د. إدريس الكنبوري
هناك ظواهر جديدة نشأت في مجتمعنا المغربي في السنوات القليلة الماضية، وانتشرت بشكل فظيع مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع أشرطة الفيديو، وهي ظاهرة المجاهرة بالأعمال القذرة التي كان المجتمع إلى أمس قريب يرفضها ويمجها، وكان الناس يضعون أصحابها في خانة الفسقة والماجنين وأهل الخلاعة، وهذه هي الحقيقة في واقعنا كما عشناها ولا داعي للعبارات المجملة في الحديث عن القبح.
ولكن اليوم حصل تحول ضخم في الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية للمغاربة، فالمجاهرة أصبحت شبه مقبولة أو على الأقل قابلة للتعايش معها، وأصحابها لم يعودوا من الفاسقين بل فتحت لهم خانات جديدة، فهم مناضلون، أو ناشطون، أو حقوقيون، أو دعاة حرية.
لقد تغيرت زاوية النظر، وتغير المفهوم، لكن الناظر هو هو، والفاهم هو هو، والمجتمع هو نفسه منذ مولاي الشريف.
وحقيقة الأمر هذه مسألة غريبة ولكنها لا تثير أي نقاش حقيقي حول منظومة القيم وحول التحولات الاجتماعية وانعكاساتها على الأخلاق العامة. هناك نوع من التعايش والتطبيع، وحتى مسمى المثقف لم يعد معنيا بهذه القضايا، إما خوفا من معسكر الحداثة المسلح، أو لعدم القناعة بالنقاش أصلا، أو للاتفاق الضمني مع التعاقد الاجتماعي ـ الثقافي الجديد.
لكن وظيفة المثقف أن يفهم وأن يجعل الآخرين يفهمون واقعهم، وعندما يتخلى المثقف عن ممارسة هذه المهمة فهذا معناه أنه هو نفسه لم يفهم، أو لا يمتلك الأدوات للفهم، أو لا يريد سجالا، أو يخشى على مصالحه.
هي مسألة غريبة جدا، بحيث صرنا نرى أناسا يظهرون باللحم والدم والإسم والكنية، وحتى اسم المدينة والحي، من جميع الأعمار، ومن جنس واحد، لأن الذكر والأنثى في الحقيقة تساويا في هذا الأمر فهما جنس واحد، ثم يعلنون على الملأ بالصوت والصورة ما يريدونه من انحلال خلقي وتحلل جسدي. وقد تربى المغاربة على أن الحمام المغربي له طقوسه الخاصة، ومكان خاص لوضع الثياب، ولكن اليوم أصبح الجميع يستحم في العراء ولم يعد هناك مكان للثياب، لأنه لم تعد هناك ثياب أصلا.
وطبعا هذا الأمر مخيف جدا، من الناحية النفسية ومن الناحية الدينية. فنحن مسلمون شئنا أم أبينا، وحتى الذي لديه رأس ساخن يرجع إلى الوراء مع تقدم السن، والله سبحانه يقول كلاما خطيرا:”إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة”. فهذا أمر خطير جدا، عندما تتطوع إلى دعوة الناس إلى قيم ترى أنها متحررة بلغتك الحديثة المنمقة، بينما هي فاحشة، وتسمي ما تقوم به دعوة إلى الحرية ونقاشا عموميا، بينما ما تقوم به دعوة إلى إشاعة الفاحشة. وطبعا تسمية الأشياء لا تغير الجوهر، فالفاحشة فاحشة ولو سميتها ألف تسمية بجميع اللغات.
المسألة المثيرة هي أن هؤلاء يشهدون على أنفسهم قبل أن يشهد عليهم غيرهم، ويعفون أعضاءهم من الشهادة عليهم في اليوم الآخر، كما جاء في القرآن:”يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”، فهؤلاء يتحدثون بألسنتهم، ويتصرفون بأيديهم، ويتحركون بأرجلهم، ويشهدون على أنفسهم علانية بما كانوا يعملون.
أتذكر أنه في النصف الأول من التسعينات، ولم يكن هناك أنترنت ولا مواقع تواصل اجتماعي، ولكن تواصل اجتماعي حقيقي، وكانت هناك عبارة مشهورة في الأوساط الاجتماعية وهي “الحشمة”، بدأت تظهر بعض الانفلاتات الثقافية في المغرب تحت مسمى “علم الاجتماع”، بزعامة الراحلة فاطمة المرنيسي. هذه التقاليد السوسيولوجية الجديدة بدأت تركز على قضية المحافظة والتقاليد داخل الأسرة المغربية، فظهر الهجوم على “الحشمة”، على أساس أن الأسرة المغربية ـ زعموا ـ تربي الطفل والطفلة منذ الصغر على الخجل وعدم الجرأة وغياب المبادرة، وعلى “العيب” في الأعضاء التناسلية، ثم بدأ الهجوم الكاسح على مفهومين قديمين قدم الحضارة الإنسانية النبيلة: الحشمة، والعيب.
ولكن هؤلاء لم يفهموا سوى أن علم الاجتماع “علم” له مناهج لا أخلاق، يمكنه أن يدرس أنثى البشر كما يدرس أنثى البقر، والواقع أن أمثال هؤلاء كانوا يمارسون “الدعوة” تحت ستار علم الاجتماع. وأنا لا أزعم بأن هؤلاء لم يكونوا على دراية بالأصول الإيديولوجية للعلوم الإنسانية، وبأهدافها الإيديولوجية، حاشا، ولكن أقول بأنهم كانوا ينتصرون لإيديولوجيا معينة في مواجهة شعب أعزل مسكين فقير أبله تسيطر عليه التقاليد البالية التي تعوق الثورة، شعب غبي لا يعرف بأن الحرية السياسية العظمى تبدأ من حرية الجسد، إذ كلما رفعت سروالك كلما سقط جنرال في فرنسا، حتى تنتصر على جميع القوات المسلحة.
في تلك الفترة ـ قلت ـ ظهر كتاب باللغة الفرنسية عنوانه “ما وراء كل حشمةAu-delà de toute pudeur، لنعمان جسوس. كان أول كتاب يتحدث صراحة عن مشكلة الحشمة وضرورة التحرر الجسدي، ولأول مرة عرفنا بأن طلب الزوج لزوجته إلى الفراش اغتصاب، ولقاء غريب بغريبة في الخارج ممارسة شرعية. وقبل ذلك بزمن قليل كانت جريدة”الاتحاد الاشتراكي” تنشر صفحة أسبوعية تشرف عليها طبيبة نفسانية مغربية ـ نسيت إسمها ولعل أحدكم يذكرني بها ـ كانت تقدم “نصائح إلى الشباب الذي يراسلها راويا لها مشاكله، وكانت النصيحة الأكثر شهرة التي تتكرر في كل جواب: اخرج/اخرجي من عزلتك، اختر/اختاري صديقة/صديقا.
بداية التسعينات في المغرب هي ماي 1968 في فرنسا.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...