حسن هرماس
لم يكن شباب حي الأندلس، المنغرس في قلب النسيج العمراني العتيق لمدينة تارودانت، وحدهم من تحرك في دواخلهم الإحساس بالمسؤولية، وإعطاء البرهان القاطع على تشبعهم بقيم التحضر والمدنية في أبهى تجلياتها.
فالرجال والنسوة ، بل حتى الأطفال ذكورا وإناثا من ساكنة هذا الحي المعروف في الذاكرة الجماعية لساكنة تارودانت ب” درب إندلس” كلهم انخرطوا في مبادرة جماعية غير مسبوقة ، أعطت لحرمة الحي الذي ينتسبون إليه ذلك البعد الرمزي والقوي لمفهوم “الحومة” في الذاكرة الشعبية المتأصلة في عمق المجتمع المغربي عبر الأجيال.
“درب إندلس”
بمبادرة من بعض الشباب الذين ترعرعوا بين أحضان المجتمع المدني الروداني ، تحول “درب إندلس” مؤخرا إلى ورش مفتوح يساهم في أشغال تهيئته وتزيينه ساكنة الحي من مختلف الأعمار، وتحويله من تجمع عمراني يضم مساكن لعائلات يجمع بينها حسن الجوار ، إلى فضاء سكني رحب يأوي أسرة واحدة كبيرة في عدد أفرادها، وقوية من حيث آصرة التضامن الذي يوحد بين أفرادها.
ذلك هو الإحساس الذي يباغت كل زائر لهذا الحي الذي تحول في وقت وجيز إلى فضاء يعج بمختلف مظاهر الجمال والزينة التي تسر الأعين، وتبتهج لها القلوب … جدران أعيدت صباغة جزء منها بتوظيف ألوان زاهية، أحواض من أحجام مختلفة وزعت على أرجاء الحي لتشكل بديلا للمجالات الخضراء، جداريات فنية تجتذب عيون العابرين للحي رسمت بعناية فنية غاية في الدقة بفضل حنكة ثلة من الفنانين الشباب من أبناء تارودانت المنضوين في إطار جمعية “أنامل الخير”.
لوحات فنية في كل مكان
البقع الأرضية غير المبنية تحولت إلى فضاء محروس لركن السيارات، سلات جمع القمامة علقت على الجدران بعدد لافت للانتباه وكأنها تثير انتباه المارة وساكنة الحي على حد سواء للإلتزام بعدم إلقاء النفايات في الطريق العام، المحلات غير المستعملة التابعة للمساكن وضعت رهن إشارة ساكنة الحي لاستغلالها في ما يعود بالنفع على الجماعة.
إحدى هذه المحلات تحولت إلى مكتبة للحي، زودها أحد المكتبيين من أبناء مدينة تارودانت بعدد كبير من المؤلفات وقصص الأطفال التي تستهوي كل مساء ثلة من صغيرات وصغار الحي الذين يتناولون البعض من هذه القصص حيث يتبارزون في القراءة ، واستعراض ما اختزنته ذاكراتهم بعد إمضاء من تيسر من الوقت في المطالعة.
في كل مساء يبادر بعض شبان الحي بتعليق بعض اللوحات الفنية في أرجاء الحي، إلى جانب بعض المصنوعات اليدوية التي تأتى الحصول عليها عن طريق إعادة تدوير المواد البلاستيكية، لتدخل في علاقة تكاملية مع أحواض النباتات والجداريات لتشكل بذلك محفزا تلقائيا على الإحساس بالجمال وتذوق تجلياته.
وسط هذه الأجواء المفعمة بالحس الجمالي يفترش شباب الحي الزرابي المزركشة، ويتحلقون حول “صينية” الشاي لاقتسام كؤوس المحبة التي تغنت بها مجموعة “ناس الغيوان” في واحدة من أغانيها الخالدة التي تحمل عنوان “الصينية”.
النسوة منخرطات
في كل مساء وبعد غروب الشمس، يتحول جزء من حي “درب إندلس” إلى مرتع يعج بالحركة وبالصياح البريء للصبية والأطفال الذين ينخرطون في لعب جماعي بواسطة الدراجات الهوائية الصغيرة، وغيرها من وسائل اللعب والمتعة الخاصة بالأطفال ، وذلك تحت أنظار ساكنة الحي التي ترعاهم بنظرات تعبر عن السعادة التي تغمرهم وهم يشاهدون فلذات أكبادهم في قمة النشوة والإنشراح.
نساء الحي من أمهات وعازبات أعطين الدليل على المكانة المركزية والرفيعة للمرأة ودورها في بعث الروح في القيم النبيلة المميزة للأوساط الشعبية في المجتمع المغربي، ففي كل مساء ومع اقتراب وقت المغيب يخترن مكانا في عمق الحي لإعداد الحساء، والقهوة “البلدية” المعطرة بالأعشاب الطبية .
أضواء الشموع التي يتم إشعالها يوميا بعد فترة المغيب تضفى جمالا رومنسيا على “درب إندلس” مما يغري المارة بالولوج إلى عمق الحي ، وعندئذ تتلقف الزائر أو الزائرة ابتسامة أحد الساكنة الذي يقدم له كأس شاي، أو فنجان قهوة، أو وجبة حساء لا يملك معها الزائر إلا القبول بهذه الهدية التي تنم عن خلق عال يوقظ في عقل ووجدان الزائر للحي القيم الأصيلة التي جبل عليها المجتمع المغربي منذ أقدم العصور.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...