عبد العالي بن مبارك بطل
إن بعضنا يسيء للبعض مئات المرات فلا يقول عفوا أخي عفوا أختي، وإن بعضنا يجرح بعضا جرحا عظيما غائرا في عقيدته أو مبادئه أو أغلى شيء في حياته فلا يقول سامحني ويخجل من كلمة أسف .
فالتسامح والاعتذار ثقافة راقية وخلق عظيم يعتقد البعض أنه إهانة للنفس أو ضعف، لكنها في الحقيقة باب كبير لاستحقاق عفو الله لان من تعود العفو في الدنيا عفا عنه رب العباد في الآخرة.
فحين سئل احد الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم صف لنا الدنيا، قال ماذا اصف لكم من دار أولها بكاء وأوسطها عناء وأخرها فناء في حلالها الحساب وفي حرامها العذاب من استغنى فيها افتتن ومن افتقر فيها حزن.
يقول تعالى في كتابه العزيز آمرا رسوله محمدا ۖ أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة والموعظة (ادعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (سورة النحل 125)) إن ثقافة التسامح فضيلة إنسانية حثت عليها جميع الديانات السماوية وغرستها في نفوس وضمائر البشر من أجل التخلي عن المشاكل الاجتماعية والنفسية والثقافية والدينية، كالكراهية والحقد والضرب والعنف والقلق التي تترك آثارا هامه في حياة الأفراد داخل المجتمع.
فالتسامح في اللغة العربية هو التساهل والحِلْمُ ، والعَفْوُ ، والصفح ، والمصالحة والمغفرة ، وقد تطور مفهوم التسامح على مدى قرون عديدة، وحتى يومنا هذا والشعوب بمختلفها تفهم هذا المصطلح بصيغ متنوعة وتعبر عنه في لغاتها ، على النحو الذي تحدده التجربة التاريخية لكل شعب وثقافته وعقيدته وظروفه الاجتماعية، فنجد مثلا التسامح في اللغة الإنجليزية يعني “الاستعداد والقدرة على تقبل شخص أو شيء ما برحابة صدر”. أما في اللغة الفرنسية ويقصد به ” احترام حرية الشخص الآخر، وطريقته في التفكير، وسلوكه ، ومعتقداته السياسية والدينية ” وفي اللغة الصينية يعني ” السماح أو التصريح وأن يكون الإنسان كريما مع الآخرين “.
وقد تحوّل هذا المصطلح إلى واحد من أكثر المصطلحات تردداً على ألسنة المصلحين، والمفكّرين، وغيرهم، للتأكيد على أهمية احترام الآخرين، وحقّهم في اعتقاد ما يشاؤون، وعدم النظر إليهم بانتقاص لأنّهم مختلفون في لغاتهم، أو ألوانهم، أو دياناتهم، أو آرائهم، الأمر الذي يضمن للجميع الحق في الحياة الكريمة، الخالية من المنغِّصات مهما كان نوعها. وإن تحويل التسامح إلى ثقافة تعمُّ أرجاء المجتمع يحتاج إلى عمل دؤوب من قبل كافة الجهات المعنيّة، خاصّة تلك التي تهتم وتُعنى ببناء الإنسان، وعلى رأسها الأسرة، والمدرسة، والدولة، إلى جانب العلماء وأصحاب الفكر، فكلّ هؤلاء يمتلكون القدرة على تشكيل عقل الإنسان، وعاطفته، وتحصينه من الأفكار الدخيلة التي تعمل على تهميش الآخر، واحتقاره، وازدرائه، والتعامل معه بطريقة تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، والمبادئ الإنسانيّة العالمية التي تؤسّس لمجتمعات متحابّة، متآلفة، تتعاون فيما بينها على الخير، وعلى إبعاد الشرِّ عنها.
وخلاصة لما تقدم أردت مشاركتكم هذه القصة الجميلة التي تعد قمة التسامح عسى من الله أن تكون عبرة لنا جميعا، حيث روي أن احد ﺍﻟﺼﺤﺎﺑﺔ كانوا مجتمعين في ﻣﺠﻠﺲ ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﻣﻌﻬﻢ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ ﻋﻠﻴﻪ ﺍﻟﺼﻼﺓ ﻭﺍﻟﺴﻼﻡ للنظر في بعض الشئون. ﻭكان جالس ضمنهم كل من ﺑﻼﻝ ابن حمامة ﻭﺃﺑﻮ ﺫﺭ (كانت هناك خصومة طفيفة مسبقة بين بلال وابو ذر)“.ﻓﺘﻜﻠﻢ الصحابة ﻓﻲ ﻣﻮﺿﻮﻉ ﻣﺎ، ﻓﺘﻜﻠﻢ ﺃﺑﻮ ﺫﺭ ﺑﻜﻠﻤﺔ ﺍﻗﺘﺮﺡ من خلالها شيئا ما في المجلس فقال له ﺑﻼﻝ: ﻻ ﻫﺬﺍ ﺍﻻﻗﺘﺮﺍﺡ ﺧﻄﺄ، فرد عليه ﺃﺑﻮ ﺫﺭ: ﺣﺘﻰ ﺃﻧﺖ ﻳﺎ ﺍﺑﻦ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﺀ ﺗﺨﻄﺌﻨﻲ؟!!! (لان أم بلال كانت سوداء اللون) ﻓﻘﺎﻡ ﺑﻼﻝ مندهشا ﻏﻀﺒﺎﻥ ﺃﺳﻔﺎً من كلامه ﻭﻗﺎﻝ : ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻷﺭﻓﻌﻨﻚ ﻟﺮﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ۖ ﻭإﻧﺪﻓﻊ ﻣﺎﺿﻴﺎً حتى وصل إلى رسول الله. ﻭﻗﺎﻝ : ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺃﻣﺎ ﺳﻤﻌﺖ ﺃﺑﺎ ﺫﺭ ﻣﺎﺫﺍ ﻳﻘﻮﻝ ﻓﻲ ؟ انه يقول ﻛﺬﺍ ﻭﻛﺬﺍ. ﻓﺘﻐﻴﺮ ﻭﺟﻪ الحبيب عليه الصلاة والسلام. فأمر بدعوة أبو ذر فلما جاءه ، قال له رسول الله ۖ: شتمت بلالاً وعيَّرته بسواد أمه؟ قال: نعم، (متعذرا بحجة كبر سنه) فقال له رسول الله ما كنت أحسب أنه بقى في صدرك من كبر الجاهلية شيء ، إن إخوانكم وأخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه، ﻓﺒﻜﻰ ﺃﺑﻮ ﺫﺭ وألقى نفسه على الأرض، ﻭﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ ﺍﺳﺘﻐﻔﺮ ﻟﻲ، ﺳﻞ ﺍﻟﻠﻪ ﻟﻲ ﺍﻟﻤﻐﻔﺮﺓ، ﺛﻢ ﺧﺮﺝ ﺑﺎﻛﻴﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﺃﻗﺒﻞ ﺑﻼﻝ ﻣﺎﺷﻴﺎً، ﻓﻄﺮﺡ ﺃﺑﻮ ﺫﺭ ﺭﺃﺳﻪ ﻓﻲ ﻃﺮﻳﻖ ﺑﻼﻝ ﻭﻭﺿﻊ ﺧﺪﻩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ، وقال ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻳﺎ ﺑﻼﻝ ﻻ أﺭﻓﻊ ﺧﺪﻱ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺮﺍﺏ ﺣﺘﻰ ﺗﻄﺄﻩ ﺑﺮﺟﻠﻚ ﺃﻧﺖ ﺍﻟﻜﺮﻳﻢ ﻭﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﻬﺎﻥ !!ـ ﻓﺄﺧﺬ ﺑﻼﻝ ﻳﺒﻜﻲ، ﻭﺃﻗﺘﺮﺏ ﻭﻗﺒﻞ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺨﺪ ﻭﻗﺎﻝ: ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻻ أطأ ﻭﺟﻬﺎ ﺳﺠﺪ ﻟﻠﻪ ﺳﺠﺪﻩ ﻭﺍﺣﺪﻩ ﺛﻢ ﻗﺎﻣﺎ ﻭﺗﻌﺎﻧﻘﺎ ﻭﺗﺒﺎﻛﻴﺎ !!.
إن ثقافة التسامح هي الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة، إذ انه خروج من الظلمة إلى النور. والعيش في حياة اجتماعية خالية من مشاكل الحروب والنزاعات والصراعات التي تحدث بين الأفراد. لدا يجب علينا جميعا محاربة النفس البشرية وتربيتها وتدريبها على السيطرة وحل المشاكل التي يمر بها غالبية البشر سواء كانت اجتماعية وثقافية ودينية لنتمكن من ترسيخ وتكوين ثقافة التسامح بيننا بكل سيولة، والابتعاد عن نبذ الكراهية والحقد وكبح عقلية الانتقام والرد الفعل السريع الذي يسيطر على أنفسنا. وفقنا لله جميعا لهذا التسامح الشامل الذي نطمح إليه.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
الاسم
البريد الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
التعليق *
للمزيد من التفاصيل...